في إحدى أكثر قصصه القصيرة إثارة للكآبة، يحكي ماركيز قصة "ماريا ديلا لوث ثرفنتيس" هكذا بكامل اسمها كما دأب على وسم شخصياته بأسماء طويلة، والتي تعطلت سيارتها في الصحراء وهي في الطريق للقاء زوجها، وحين وقفت بلهفة على قارعة الطريق تشير للسيارات الذاهبة لبرشلونة، لم تجد سوى حافلة مهترئة كانت في طريقها إلى مكان ما، ذكر السائق أنه ليس ببعيد، فتقول ماريّا: لا يهم، فالشيء الذي أحتاج إليه هو هاتف، ثم تركب مدفوعة بذعر طفولي تثيره قصة هجرها القديمة لزوجها ورغبتها في طمأنته أن غيابها هذه المرة ليس للأبد، وأنه ليس عليه القلق من احتمال هجرها، فهي فقط ستتأخر في العودة.
تصل الحافلة للوجهة، وتنزل ماريّا بحماسة قبل أن تنبهها ضربة لحارسة كي تعود للصف الذي تسير فيه النساء الخارجات بانتظام الآلات من الحافلة، تقول ماريّا مرة أخرى إنها تريد استخدام الهاتف فقط، فترد الحارسة بأن هذا سيكون في الداخل. تعرف ماريّا أنها الآن في مصحّة نسائية للأمراض العقلية قادها لها قدرٌ غريب، إذ إنها أرادت فقط أن تتحدث بالهاتف، بينما المزاج العام من حولها يدفعها نحو قوائم المجانين بصلف وحسم وعدم رغبة في سماع التبريرات، إذ إن كل مجنون في النهاية لديه رأيه الخاص في عدم كونه مجنونا.
تتوالى الأحداث في القصة. تفشل ماريّا في إقناع إدارة المصحّة والأطباء بعدم جنونها وهي تكرر بكافة الصيغ والقوالب التي توفرها اللغةُ السببَ الوحيد الذي جلبها لهذا المكان، وهي أنها جاءت لتتكلم في الهاتف فقط!
وحين استطاعت بطريقة ما إرسال رسالة بمكان وجودها لزوجها، والذي ظلّ بدوره حتى لحظة تلقيه الرسالة في متاهات الشكّ والتشظّي، يأتي زوجها على خطى اللهفة، وبعد لقائه الإدارة، مطمئناً إياها بأن مكوثها لن يطول، وأن الأطباء سيعالجونها وستخرج في أتم صحة. "لكنني جئت لأتكلم في الهاتف فقط"، تقول ماريّا في أشد حالات ضعفها الإنساني وهي تفشل في إقناع آخر الحلفاء؛ زوجها بعدم جنونها. تنتهي القصة بانكفائها على نفسها وابتعادها تدريجيًّا عن العالم في حيّز الغرفة البيضاء الصغير. ولا ندري، ففي النهاية ربما تصدق ماريّا نفسُها في ذروة وحدتها وهي تنصت قريباً من النافذة لقطرات مطر الظهيرة، أنها ليست سوى مجنونة.
وبعيداً عن قدرة "ماركيز" في هذه القصة على رصد لحظة اليأس البشري في كامل استبدادها، فإنها ترسم بعبقرية ذلك السيناريو الذي يجد فيه شخصٌ ما نفسه تحت وطأةِ حكمٍ سلطوي بحت، يصمُه بالجنون أو بأي تهمة أخرى، ولا أدري من منهما قرأ الآخر، "ماركيز" أم "فوكو"، فقد ذهب الأخير وهو يفكك كعادته مفهوم الجنون إلى أنه حكم سلطوي بامتياز، أي أنك من الممكن أن تكون مجنوناً حين تقول سلطةٌ ما أنك كذلك، سواء كانت هذه السلطةُ مصحّةً عقلية، أو وزارةَ صحة، أو حتى طبيباً متدرباً في الطب النفسي.
وحين تتعمق أكثر في هذه الفكرة تجد شواهد كثيرة لها، ففي التاريخ تم استخدام تهمة الزندقة -والهرطقة في سياقها المسيحي- كحكمٍ سلطوي بحت للتخلص ممن لم تجد السلطة مدخلاً سياسيًّا للتعامل معهم، كما حدث مع غيلان الدمشقي، وبالتوازي معها تطورت كثير من الفتاوى والأحكام الفقهية.
وفي هذا العصر أيضاً يكفي أن تتهمك السلطات الكبرى في العالم بالإرهاب حتى تبدأ الآلة الإعلامية بسحقك، والجيوش بالتحرك نحوك، وسيصدق جيرانك أنك إرهابي تماماً، وربما تصدّق أنت نفسك هذا وتتحرك وفق ما تمليه عليه تلك اللحظة المجنونة.
وفي غياب سلطتك الخاصة لن يكون بمقدورك أبداً دفع أي تهمةٍ يتم وصمُك بها، ستهربُ بعيداً أو ستواجه قدرك وحيداً، ولقد ظلّ التاريخ يؤكد هذه الحقيقة المرّة، فضاعت حقوق كثيرة أمام طوفان السلطة الأعمى، وانهارت كرامات إنسانية لا تُعد أمام قدرة الأقوى على تبرير انتهاكاته دائماً، وحتى حينما تتهاوى كافة حججه القديمة فسيقف أمام العالم ليقول ببساطة إن تقديراته لم تكن صحيحة، وغطاءُ اللغةِ مرنٌ جدًا ويتيح قول أكثر الأمور غرابة بطريقة قابلة للتصديق.
لقد غزا الرجل الأبيضُ العالم البعيد عنه وسمّاهُ "العالم الجديد" في حين أنه ومنذ الأزل كان موجوداً هناك وراء الشمس يسكنه بشرٌ ملأوه بالفن والذكريات، وبينما دافع السكان الأصليون عن الأرض والدم بالسهام وأغاني الأسلاف، سحقتهم الجيوش المنظّمة ببارود البنادق والمدافع مدفوعةً بعاطفة محمومة اسمها "عبء الرجل الأبيض في تحضير العالم".
وحين بان عوارُ الحجج التي بررت بها إدارتا بوش وبلير غزو العراق، والتي ضلّلت بها الرأي العالمي مقنعةً إياه بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، تم تسمية الدوافع "أخطاء استخباراتية"، وتناسى العالم تحت هذه الدعاوى السبب الحقيقي الذي جرّ كل أهوال العالم من أقصى أماكنها نحو العراق ونحو منطقتنا والتي لا نزال نعيش احتدامها حتى اللحظة، وإن لم يكن هذا بذاته هو السبب الوحيد لكل ما تعيشه هذه الأمة في هذا المخاض العسير.
أراد ماركيز في هذه القصة أن يقول أن الإنسان قد يجدُ يوماً ما نفسه في مواجهةِ صلفِ سلطةٍ ورأي عام غاضب، قد تتناوشه الاتهامات وتطحنه آلة إعلامية لا ترحم، وينتصب في وجهه مزاجٌ كدرٌ يضيقُ بمحاولاته للتبرير والشرح. سيصرخ حينها وينادي كي يُسمَع لكنه لن ينال هذا الترف، وستحمل الريحُ نداءاتِه نحو الخرائب، كما فعلت مع توسّلات "ماريّا" حين بُحّت وهي تردد بكافة الصيغ اللغوية الحقيقةَ التي لم تُرِد السلطةُ/المصحةُ فهمها.. "جئتُ لأتكلم في الهاتف فقط".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.