في البداية كانت مجرد فكرة عابرة ككل من يعمل ثماني ساعات لمدة خمسة أيام في الأسبوع. الأمر في مستهلّه لا يتعدى خاطرة لا تعطيها من الوقت دقيقة واحدة، ثم تنسى، أو تغوص في دوامات العمل اللامتناهية.
وقد تبدأ في التفكير أكثر حتى إنك قد يدفعك الحماس للتقديم لعمل حُر أو عملين، وقد تفشل أو تُجرب مرة ثم لا تُكمل، لافتقارك للوقت والطاقة الكافيَين. كانت تجربتي مشابهة للجميع، إلا أنني خرجت من منطقة الراحة المُعتادة أكثر بكثير ممّن هُم حولي.
تنقّلت خلال خمس سنوات العمل في سبع شركات مختلفة، من حضانات الأطفال وإلى الصحف. وفي كُل مرة لم أتحمل شيئًا ما، أحيانًا تكون طبيعة العمل في حد ذاتها، وأحيانًا البيئة المحيطة، وفي أحيانٍ أخرى يكون انعدام الشغف. لأن غياب الشغف والتعلّم بالنسبة لي من أكثر العوامل التي دفعتني إلى ترك الكثير من الوظائف التي يكون مرتبي فيها مُرضٍ للكثير، فأقول لنفسي إنني لو انخرطت في دوامة الماديات لن أترك عملًا أبدًا.
بدأت في السنوات الأولى تعلم ما يفيد مهنتي على الأقل، وهي الترجمة في الأساس والكتابة على خطٍ موازي. وفي غضون ذلك بدأت أيضًا أتعلم أشياء جديدةً كالعزف على البيانو ثم على الكمان والرسم بالخط العربي، وبالطبع كان حُبي للقراءة في المرتبة الأولى، فقد كنت أقضي يومًا أو يومين على الأقل في الأسبوع في مكتبة قريبة من سكني لأقرأ.
كان الحل الوحيد لأطرد فكرة العمل الحُر من داخلي هو الانغماس في الكثير والكثير من الهوايات، لكي أعوّض بها ثماني ساعات في عمل لم يَزِد عليَ إلا بعض الكلمات في السيرة الذاتية وبعض الرسميّات التي يعشقها مجتمعنا كخطابات التوصية وما إلى ذلك. ولكنني أكره الرسميات وأكره كل ما يقوم على الروتين أو رتابة تبعث لي الضجر الشديد.
ومع ذلك، فقد اضطررت إلى الانخراط في هذه الرسميات شيئًا فشيئًا لغرضٍ جهلته حينئذٍ،وظللت أتنقل من عمل لآخر وأتلقى أسئلة من نوع "ألا زلتِ تعملين في هذه الشركة؟" كنوعٍ من السخرية والاستهزاء باستقالاتي المتكررة. ولكني في الحقيقة لم أُمانع، بل على العكس كنتُ أحب أن أُسأل هذا السؤال حتى أجيب بالنفي المفعم بالحماس وأُتبِعها بضحكة الحرية.
كنتُ أحب أن أُسأل هذا السؤال لأن إجابتي كانت توحي للسائل بأنني لا أتقيّد بروتين، ولا بمنطقة الراحة، ولا بأي شيء قد يبعث إليّ في يومٍ ما بؤسًا لن أستطيع التخلص منه، وكنتُ أتمنى أيضًا ممّن حولي أن يمتلكوا شجاعة تدفعهم لترك ما هم فيه من ضغط نفسي، لذلك كنت كلّما استقلت نشرت الأمر بين أصدقائي وبين من تربطني بهم أي علاقات ولو سطحية، لأشجع من حولي.
إلا أنه خلال هذه السنوات الخمسة أصابتني إصابات غريبة ومتكررة، من حساسية إلى آلام شديدة في الظهر إلى إصابة في اليد تمنعني أحيانًا كثيرة من العمل أو حتى من حمل أي ثقل سيزيد من الألم سوءًا. ناهيك عن ضعف النظر وعن الإرهاق الطبيعي مع ضغوطات العمل. كما أنني لم أكن موظفة تعشق الإجازات، بِحُكم أن تحركاتي الكثيرة عوّدتني على ألا أتكاسل ولا أرتاح. ولكنني في نهاية كل وظيفة كنت غالبًا ما أُستنزف استنزافًا يُجبرني على الراحة ليوم أو يومين.
وبعد طول تفكير، قررت أن الطريقة الوحيدة ستكون كالقفز في مياه عميقة ودفع نفسي إلى تعلم السباحة. قررت فجأة أن أستقيل من كل رتابات العمل، بعد آلام لا تُحتمل في يديّ. قررت أن أترك كل ما يُشعرني بالروتين وأقفز من حافة جبل دون أن أفكر مرتين وأنا أسقط إلى الهاوية، ثم استقلتْ.
وكان هذا السبيل الوحيد لأواصل السير في الطريق الذي بدأتُه، وهو العمل بشغف، وبدون أي قيود مادية حتى لو اضطررتُ إلى التضييق على نفسي قليلًا في سبيل سعادتي وراحتي. استقلتُ وتركتُ كل مفاهيم العمل والنجاح التي عرفتها طيلة هذه السنوات، والتي يربطها أغلب الناس بالترقيات في مكان العمل، وبدأت في عالمٍ جديد من العمل الحر غير المُقيد بشيء. استقلتُ وقطعت وعدًا ألا أتكاسل عما وضعتُه على قائمة النشاطات التي كنت أعتزم الدخول فيها. استقلتُ وأنا لا أنفكّ أدعو الله أن يكون هذا قرارًا صائبًا، لأن الذهاب بملء إرادتك إلى المجهول مخيف، مخيفٌ جدًا.
استقلتُ وتنفّستُ الصعداء، وتيقّنت أنه هناك من يشعر بي وسيعطيني ما أريد بل ما أحب، ولكنه سيطلب مني أن أصبِر وألا أجزع، وسيُعلّمني أن السعي للرزق هو أساس العمل. استقلتُ للمرة الأخيرة، لأبدأ حياة أخرى يخافها الكثير.
استقلتُ لأنني أحب عملي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.