كل من يعيش في هذا العصر -عصر السرعة- يدرك تمامًا ما آلت إليه أحوالنا.. بعد التطور الذي عرفته أجيالنا في مجالات عدة، لم يكن يتمتع بها أجدادنا.. ولكن.. السلبيات أحيانًا تأبى إلا أن تصحب الإيجابيات في رحلتها عبر الزمن.
نستيقظ صباحًا على دقات المنبه المتسارعة.. نلبس بسرعة.. نتناول فطورًا مكوَّنًا من قهوة مُنكَّهة.. وتوستٍ فرنسيّ، مع قطعة نقانقٍ بمذاق الجبن، أو بعض المربى بنكهة الفراولة.. ثم نتوجه مسرعين إلى أعمالنا.
نرى شابًا يركض خلف الحافلة.. وآخر يبحث عن تاكسي، متفقدًا ساعته بقلق.. وفتاة تفضل المشي هرولة.. وموظفًا يركب سيارته، التي لم تغنِه عن الدخول في سباق مع الوقت، بفعل الاكتظاظ وسيل الاحتجاجات المجلجلة، التي لا تفتأ أن تتعالى وسط الصخب، لتزيد الشارع عرقلة.
نصل أخيرًا إلى مكاتبنا.. نحس أننا من أبطال الزمن الخارقين.. نشغل مقاعدنا.. ونشرع في أداء أعمالنا.. فإذا بِالإرهاق يتسلل إلى أجسادنا.. فنتناول شايًا بنكهة الليمون، أو عصيرًا معلبًا.
يحين وقت الغداء، فنهرع لتناول فطائر لحم، منكهة بمذاق الزعفران، والتوابل الاصطناعية.. وبطاطس مقلية، كانت مجمدة لشهور.. ومشروب غازي لذيذ وغير صحي.. بل الأدهى من هذا، أن ربات البيوت أنفسهن، أصبحن يُحضِّرن الطعام بمستحضرات النَّكهات السريعة الجاهزة.. ربما ربحًا للوقت.. أو ربما تكاسلًا أو بسبب الإرهاق.
نعود مساءً إلى منازلنا، أشباهَ بشر.. مرهَقين.. مُتوتِّرين.. بل منهارين، كأننا نحمل ثقل الأرض على رؤوسنا.. لا نحتمل كلامًا ولا نقدر على التفكير.. ربما لم نُنْهِ حتى أعمالنا كما يجب.
نتناول عشاءً سريع التحضير.. ربما قهوة سريعة التحضير أيضًا.. ونسهر لننهي أعمالنا.. لنحاول أخيرًا النوم بصعوبة، على قرْع دقات قلوبنا المتسارعة.. إنها حياة السرعة بأبهى حللها.. فهناك دائما أسوأ.
اعتدنا العيش على النَّكهات.. فلم نعد نستمتع بمذاقات الطبيعة الأصلية.. حتى اعتقدنا من فرط إحباطنا، أن ما نعيشه هو أصل الحياة، ولم ندرك أننا أصبحنا نعيش فقط بنكهة الحياة.
تجدنا في عجلة من أمرنا ليل نهار.. لا وقت لنا لنرى أحباءنا وأهلنا.. نعتذر لأصدقائنا طوال الوقت عبر الهاتف، ذاك الذي يرضي غرورَ سرعتنا.. تدهورت علاقاتنا كَصِحَّتنا.. بل تدهورت حياتنا.. حتى أصبحنا نسخة مزيفة لمجتمع مثالي لطالما حلمنا بالعيش بين أحضانه، والتَّنعُّم بما وصل إليه من تقدم علمي ومعرفي.. لنستيقظ فجأة على صرخات ضمير يائس، لم يعد يعرف كيف يصنفنا داخل دوامة الاصطدام بواقعٍ، أقل ما يقال عنه إنه صعب.
ليتنا نستطيع أن نتوقف عن الاختباء في دواخل أنفسنا، ونتمكن للحظة من استشعار الخطر المحيط بِنَا.. لأن استمرارنا بالخطو في هذا الطريق الطويل.. سيجعلنا قريبًا، نتفاجأ بأضواء عمرنا تخبو، الواحدة تلو الأخرى.. لتنطفئ أخيرًا بصمت وسط صخب هذا العالم.. ونكتشف في النهاية أننا لم نكن نعيش.. بل نتعايش مع أوضاعنا أو ربما نتظاهر بالعيش، حتى لا نفقد نكهته بعد أن فقدنا وجوده.
قد نظل على حالنا، وقد نتمكن يومًا من مصالحة أنفسنا، التي لطالما عذَّبناها باستسلامنا المهين، لواقعٍ اصطناعيٍّ آليٍّ، متناسين أننا خُلقنا من الطبيعة ولن نرتاح إلا في أحضانها.. إذا ما اخترنا يوما أن نوازن بين متطلبات المجتمع واحتياجاتنا كبشر.
نسمع دائما أن التغيير يبدأ من الداخل.. لكن قليلًا ما نتمكن من استشعار ذلك المعنى العميق، المختبئ بين الحروف.. فداخلنا أكثر تعقيدًا مما يبدو عليه.. لسنا كائنات خلقت فقط لتُعمِّر الأرض.. بل خُلقت لهدف.
نحن خليط متجانس من مكونات طبيعية واحتياجات أساسية لضمان الاستمرار.. ليس فقط كبشر ولكن كخليفة لله على أرضه.. ولهذا علينا أن نتقن مخاطبة أنفسنا كفكر وإحساس، بتغذية عقولنا الجائعة منذ زمن، إلى أصول التفكير السليم.. وتلبية متطلبات الجسد عند الجوع والعطش، بما تجود به الطبيعة بسخاء في كل البقاع.. دون أن نُهمل حاجة أرواحنا إلى الطمأنينة التي افتقدناها طويلًا، من فرط انشغالنا، حتى بِتنا نؤدِّي فرائضنا بتكاسل، وأصبحنا نتصرف بحكم العادة لا العبادة.
قد يبدو التغيير صعبًا، في البداية.. ولكن.. يجب أن نتذكر دائمًا أننا نتعامل مع خير الكائنات.. مع أنفسنا.. فإن نجحنا فذلك ما نطمح إليه.. وإن أخفقنا فيكفينا شرف المحاولة، لننجح حتمًا في النهاية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.