قصة السجادة والطائرة

مهما كان ثمن السجادة فهو في الأخير لا يساوي شيئاً في ميزانية الدولة.. لكنه كاشف لشيء آخر باهظ الثمن، وهو أن المسؤولين في مصر في الحقيقة غير مهتمين بمشاعر المواطنين ولا يعبأون بها

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/12 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/12 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش

في الأول من يونيو/حزيران 2010 وعلى متن طائرة طيران "الاتحاد" القادمة من "لندن" وصل إلى "أبو ظبي" رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد كاميرن" والوفد المرافق له والمؤلف من خمسين مسؤولاً حكوميًّا بينهم وزراء وسياسيون ودبلوماسيون على الدرجة السياحية، وهي الأدنى في كل شيء مقارنة بالدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال، حيث المقاعد الصغيرة الضيقة والوجبات غير الفاخرة والخدمات العادية في المطارات.

موكب يتألف من أكثر من خمسين سيارة ألمانية فارهة يصل لمدينة السادس من أكتوبر لتسير عجلات تلك السيارات على أربعة كيلومترات من السجاد الأحمر في مشهد لم نره من قبل في أي مكان بالعالم.

لم تكن تلك هي المرة الأولى في ذلك العام التي يسافر فيها أهم رئيس وزراء في العالم والوفد المرافق له كمسافرين عاديين دون أي نوع من التمييز، دون طائرة خاصة كما يحدث مع معظم رؤساء وزراء العالم، بل إن رئيس الوزراء البريطاني هو بموجب صلاحياته الرئيس الحقيقي لبريطانا فالملك في بريطانيا منصب شرفي وبروتوكولي.

اعتاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على السير في موكب مهيب منذ اللحظة الأولى وهو ذاهب لحلف اليمين الجمهوري في المحكمة الدستورية العليا ولم يحدث أي جديد في هذا الشأن طيلة العشرين شهرًا التي مضت من فترة ولايته الأولى.

بعد إتمام زيارته ومع رحلة العودة قرر المسؤولون الإماراتيون أن يجاملهوه مجاملة غير كبيرة، حيث قاموا بترقية تذاكر السفر له من الدرجة السياحية إلى الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال مجاناً، وهذا أمر عادي جداً عند معظم شركات الطيران مع الشخصيات العامة أو أصحاب السفرات المتكررة على نفس الشركة كنوع من المكافئة.

وفقاً لحجم الإنفاق المرئي، تعتبر القيمة المالية لمخصصات رئاسة الجمهورية في مصر في ترتيب أكبر عشرين دولة، رغم أن مصر ليست دولة نفطية أو دولة من دول الاقتصاد القوي، بل دولة تعتمد في الفترة الأخيرة على الديون الخارجية أكثر من أي شيء آخر.. وفي المقابل فالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ اللحظة الأولى لتوليه المنصب وهو يناشد المواطنين بأن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه وطنهم بعد أن قرر رفع معظم الدعم عن السلع الأساسية وفرض ضرائب مضاعفة على جميع المنتجات والخدمات والتي بالقطع تحملها المواطن، كما ضاعف أيضاً القيمة الجمركية لجميع المنتجات القادمة من الخارج.. واستجاب المواطنون واستسلموا تماماً لإرادته.

فور وصول "ديفيد كاميرون" والوفد المرافق له إلى مطار أبو ظبي فوجئ بهذا الأمر وانزعج بشدة لكنه فاجأ الجميع بالرفض وقال:
إن بريطانيا تمر بأزمة اقتصادية، تقتضي ربط الأحزمة شعباً وحكومة، بريطانيا عندما فرضت سياسة التقشف على كل مواطنيها شعباً وحكومة بسبب نقصان الناتج القومي بمعدل 7% ويجب أن تكون الحكومة هي القدوة في تخفيض النفقات.. كيف أكون قدوة إذا جلست على مقعد في الدرجة الأولى؟!

نزل الرئيس ومن معه من السيارات الفارهة ودخلوا إلى المبنى الذي حضر الرئيس لافتتاحه، واصطف كلٌّ في مكانه وأمسك عبد الفتاح السيسي بالميكروفون ليقول للناس إنه لم يعد هناك مجال لأن يدعم مياه الشرب وأن المصريين سيدفعون ثمنها كاملاً، وأنه اتخذ قراراً بمعالجة مياه الصرف الصحي ليعيد استخدامها مرة أخرى بعد أن فشل في مفاوضات سد النهضة.

سلوك "ديفيد كاميرون" هو دلالة واضحة على فكرة الانتماء والولاء والشعور بالمسؤولية من الحكومة تجاه الوطن، لهذا تجد المواطنين في بريطانيا ورغم حالة التقشف التي مرت عليهم كانوا راضين تماماً لأن ما يسير عليهم يسير على الحكومة، فلم يجدوا البذخ في مصاريف الحكومة وفي المقابل رفع قيمة الضرائب على الموظفين والعمال من الطبقة الفقيرة، ولا يرون مواكب من عشرات السيارات تصطحب كل مسؤول، صغيرًا كان أم كبيرًا، ولا استغلالًا لمخصصات المؤسسات الحكومية التي تكبد الدولة مليارات، ولا سفريات بطائرات خاصة هنا وهناك من وزير أو رئيس وزراء.. هم يرون فقط حكومة تشعر بالمسؤولية.. وهذا وحده يكفي لأن يجعل الشعب مستعدًّا لأن يضحي بما هو أكثر من هذا.. لأن ما يسري عليهم يسري على جميع المسؤولين في الدولة.

رمزية مشهد دهس عجلات سيارات السيسي للسجادة الحمراء كرمزية سفر "ديفيد كاميرون" على الدرجة السياحية، فمهما كان ثمن السجادة فهو في الأخير لا يساوي شيئاً في ميزانية الدولة.. لكنه كاشف لشيء آخر باهظ الثمن، وهو أن المسؤولين في مصر في الحقيقة غير مهتمين بمشاعر المواطنين ولا يعبأون بها.. وعندما فوجئوا برد الفعل السلبي تجاه ما رأوه، قالوا إن ما شاهدناه هي دهانات حمراء وليست سجادة، وكأنهم لا يدركون شيئاً عن المشكلة، وهي إشعار الناس بتحمل الحكومة معهم للمسؤولية، ثم عندما وجدوا أن كذبة الدهانات لن تُجدي، قالوا إنها سجادة ليست باهظة الثمن وجئنا بها لأنها تبعث البهجة للمشهد ولا داعي لردود الأفعال السلبية هذه والانتقادات التي تهدم الوطن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد