في رحلة الحياة اعتدنا على مصادفة العديد من الأشخاص، فمنهم من نجعله مقرباً كل القرب من أرواحنا؛ نصطفيه للتغلغل داخل شرايين أجسادنا فيصبح كالدم الذي يتدفق في جميع عروق وِديان الجسد فيدعمه ويوهبه الحياة، ومنهم من نضعه في مكانة خاصة تجاور قلوبنا فنعشقه كل العشق أو نقدره كل التقدير، ومنهم من نكتفي به رفيقاً لدروب نسيرها متفرقة؛ فيكون كالدليل الذي يرشدنا لآخر الطريق ليطمئن كل الاطمئنان على سلامة عبورنا؛ فيتركنا بسلام دون انقطاع لتظل تتلاقى أرواحنا بين الحين والآخر، ومنهم من نعتبره كعابر سبيل؛ فقد صادفناه ولكن لم نجعل له نصيباً في أىٍّ من رحلاتنا.
وكثيراً ما نشتاق لأيامٍ نتمنى لو نستطيع إعادتها حتى لو كلفنا الأمر التضحية بجزءٍ من حياتنا القادمة.. والحقيقة أن سبب الاشتياق لا يكون حنيناً لأيامٍ مضت وحسب، ولكن حنيناً مستتراً قد يكون لشخص نفتقده كل الافتقاد، أو ندماً على قرار نتمنى لو تعود بنا تلك الأيام للعدول عنه، أو مكاناً دفنّا به العديد من أسرار طفولتنا، أو فرصة ضائعة للبحث عنها من جديد.
فعندما تجلس وحيداً بمفردك أو حتى بين جحافل من البشر؛ تُطلق خيول ذاكرتك لتسرح في فضاء ما تمتلكه من ذكريات. فتمر تلك الخيول أمام شخص تعرفه جيداً فقد كان صديقاً مقرباً ذات يوم قد تكون فرقتكما دوامة الأيام أو أبعدكما قطار الموت فتفرح فرحاً شديداً لرؤيته وتتمنى لو تعانقه كما كان يحدث وتحكي له تفاصيل لأحداثٍ مضت لم يعايشها معك فتهرع إليه، ثم تكتشف أنه مجرد طيف لا تستطيع لمسه أو الاقتراب منه فما مضى قد مضى. ثم تغمِض عينيك تاركاً خيولك لتشق طريقها بين دهاليز الذكريات؛ فترى أضواء ساطعة لا تستطيع رؤية معالمها جيداً وعندما تقترب لتحديد مصدرها؛ تكتشف أنه كان احتفالاً قد حضرته مع أسرتك فتتذكر كم كنت سعيداً ولكن لا تستطيع تَذَكُّر وقت هذا الاحتفال هل كان في وقتٍ قريب أو بعيد نوعاً ما، ثم تذهب بعينيك إلى الطرف الآخر لترى سلاماً قد بُعث إليك من شخصٍ كانت عيناه قد وارت التراب ولم يَعُدْ؛ فتُذرِف دموعاً تسقط كالسيل فقد فتحت تلك الذاكرة جرحاً كان قد اندمل.
تتوقف الخيول وتتوقف معها مشاهد ذكرياتك التي لم تستطع تَذَكُّر الكثير منها تحديداً؛ فمنهم ما تستطيع استرجاعه من صندوق الذكريات بكل سهولة لأنك ببساطة قد حفرتها على جدران عِظامك العتيقة، ومنهم ما يَصعُب عليك استرجاعه فأنت تعلم أنه موجود في الصندوق، ولكن تكاد تكون صورته مشوشة قليلاً أو كثيراً، ومنهم ما تختار ألَّا تتذكره فتواريه في قاع الصندوق حتى لا تقع عليه عيناك سهواً، وبعضهم يختفي من ذكرياتك كأنه لم يحدث يوماً وتجد نفسك لا تعلم عنه شيئاً. فتفتح عينيك مرةً أخرى وتذهب لممارسة روتين حياتك؛ فقد انتهت فترة وحدتك وانتهي معها وقت زيارة ذكرياتك وآن لها أن تعود إلى حيث كانت.
وجاءت تحديثات الفيسبوك لعام 2015 بخاصية "On This Day" أو"حدث في مثل هذا اليوم" حيث اعتبرها مارك -مؤسس الموقع- هدية عظيمة يقدمها لمستخدميه، واعتقد أنها ستكون بمثابة كرنفال للبهجة لهم، ولكن لكل عملة وجهين. فلم يكن يعلم أنها ستكون بمثابة سلاح قاتل يطعن قلوب البعض ليفتك بها، وينهش أجساد البعض الآخر ليضعفها، ويضغط على جراح آخرين لتنزف من جديد تاركاً صاحبها يصرخ من شدة الألم.
فقبل تلك الخاصية كنا نتذكر أشخاصاً وأحداثاً محدودة، أحيانا نذكُر وقت وتفاصيل حدوثها، وأحياناً كثيرة لا نذكُر عنها شيئاً سوى أنها قد حدثت. والعديد من الأحداث التي لا نستطيع تذكرها فلا تلمحها ذاكرتنا ولا تستطيع استدعاءها من جديد فلا نبالي بجِراحها إن كانت لها جِراح ولا بفرحها إن كان لها فرح. أما الآن فلا نستطيع الهروب من كل تفصيلة حتى ولو كانت صغيرة من تفاصيل ذكرياتنا اليومية؛ ففكرة تلك الخاصية في الأساس تعتمد على تجميع كل ذكرياتك ومنشوراتك الفيسبوكية التي حدثت من قبل وأضفتها على صفحتك الشخصية أو تمت الإشارة لك فيها في مثل اليوم الحالي الذي تعيشه محدداً بكل دقة وقت حدوثه باليوم والدقيقة والثانية، ويقوم الموقع بإرسال إشعاراً لك بكل تلك الأحداث ليُذكرك بها.
فهذه صورة التقطتها في مثل هذا اليوم عمرها الفسيبوكي سنة أو أكثر تجمعك أنت وصديقك الذي كان يمتلك قطعة من قلبك، ولكن أين هو الآن؟ فقد فارقته المنية فذهب آخذاً نطفة من روحك معه ولم يعد إلى جوارك. وهذا منشور كنت قد كتبته تشكر فيه البعض لتواجدهم بالقرب منك؛ تعبر لهم عن امتنانك لاحتلالهم جزءاً من حياتك اليومية طالباً من الله أن يديم عليكم نعمة القرب؛ فتفتح ما كانت بينكما من تعليقات تمتلئ بالود والحب فتضحك ثم تجد عبوساً يسيطر عليك لأن هؤلاء قد ذهبوا بعيداً ولم يعد لهم وجود في حياتك؛ قد تكون تعرف سبب البُعد أو قد تكون لا تعرف. ومنشور آخر تمت الإشارة لك فيه من شخصٍ كان كملاكك الحارس يعِدك فيه بعدم التخلي عنك فقد كان يعتبرك كهدية من الله بُعِثَت لتنير له الحياة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فقد تخلى عنك وتركك وحيداً. ومنشور آخر لحادث قد رأيته مسبقاً ترك ندبةً في أعماق روحك كنت تتصنع نسيانه، ولكن الآن لا تستطيع فهو ظاهر أمامك بالوقت والتاريخ شارحاً كل تفاصيل حدوثه فتشاهده كما شاهدته في المرة الأولى فتعود آثار الندبة لتعصر روحك من جديد.
فطوال رحلة أعمارنا؛ نقابل من نقابل، ونصادق من نصادق، ونبتعد عمن نبتعد، ونفارق من نفارق. كنا نتذكر وننسي وأحيانا نتناسى. أما الآن أصبحت حياتنا وأفعالنا ومواقفنا وذكرياتنا كلها مُجَمعة في ذكريات فيسبوكية مدونة بالتاريخ والوقت والساعة وما أقساها من ذكريات فلا تستطيع الهروب منها فهي تلاحقك كل يوم؛ تبعث روحك المتهالكة من ألم الذكريات السابقة إلى جسدك لتقتلك من جديد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.