كانت أوّل لحظة أعرف فيها ما الذي تعنيه "مواجهة المخاوف"، لأنّي وبكلّ بساطة خفت كما لم أخف من قبل وعرفت ما الذي تعنيه "المخاوف" كمنطلق.. وشتّان ما بين "الخوف" كشعور نتقلّب فيه صباح مساء كبهار يلوّن عيشنا في طبيعته وبين ما يصنعُه وقوفٌ حازم فارق على حقائق ما، يُحوّل مجرّد الخوف تحت طائلة ارتفاع منسوبه وامتداد زمنه وتداعياته لقلق قد يحرمنا النّوم أو الأكل أو الإحساس بسير الوجود الطّبيعيّ أصلا..
عرفت كم هي مهمّةٌ الطبيب حسّاسة وصعبة قد لا يقدر عليها الواحد منّا، تتساوى أمامها إمكانيّات النّجاح والرّسوب مبدئيًّا.. وعندما يتعلّق الأمر بالحياة، فلا مجال لمقارنة ما تمتحنا فيه بما امتُحنّا فيه من قبل على مقاعد الطفولة أو الدّراسة مثلا..
الموت.. الواعظ الأوّل بلا منافس! رأيته بصفة مكثّفة في مدّة قصيرة جدًّا تختصرها بضعة أشهر.. كنت أراه كلّ يوم و بأشكال متعدّدة.. بداية بأحد أكبر وأشهر أقسام الاستعجالي بالعاصمة وصولا لمتعلّقات الطبّ الشّرعيّ وفروعه.. مرورا بالتخدير والإنعاش.. على اختلاف سنوات العمر، والحالات الصحية، والمستويات العلميّة والاجتماعية والاقتصاديّة، في ظروف هادئة أحيانا وأخرى مفزعة.. لا أحد يملك أن يقف في وجهه.. ولا أحد يحاول، لأنّ المحاولات إنّما تندرج في إطار أن تكون أداة أو سببًا لمن لا يزال في عمره بقيّة لا غير.
أكبر وأقسى درس، تعلّمته من أوّل حصص الطب الشرعي وكانت حصّة صادمة بمنزلة حبّة الكرز على خبزة حلوى كما يقول الفرنسيّون.. دخلت المدرج وأنا في حالة نفسيّة مرتعشة ولم تكن بسبب المادّة في البداية، انتحيت مقعدا ما زلت أذكر موقعه الخانق إلى يومنا هذا، وقد كان وسطيًّا لا يسمح لك بالمغادرة خلال الدّرس إن أردت.
وبعد ساعة تمهيديَّة عن المادة ككل، انطلق الأستاذ الثاني في درسه وكان عنوان الدرس "تشخيص الموت".. كلمتان كان وقعهما رهيبًا على مداخل القلب الصّغير الذي كنت أحمله والذي كان يجاهد منذ الصّباح بل ومنذ الصائفة السابقة ليتماسك. درس دسمٌ عمّا يصير إليه الجسد بعد أن تفارقه الروح، "ما بعد الموت" في جزئه الدّنيوي الذي يمكن أن يشهده الجميع إلا المعنيّ بالأمر، نبذة تذكرة لجزئه الآخر، حيثيّات التّعامل مع "جثّة" هامدة -كانت تسمّى في يوم ما جسدًا- من العلامات السلبية للحياة وتعني انتفاءها إلى العلامات الإيجابيّة للموت أي حلوله، طبقًا للطبيب المُعاين الذي يسمحُ إمضاء "بسيط" منه بالمرور إلى "قرار" الدّفن. كلّ ذلك بالتّفصيل الباعث على "الملل" والجزع في آن.
أمّا الدّرس الذي تعلّمته فكان: الجسد أمام الرّوح لا قيمة له، لا صوت له، لا سلطة حقيقيّة مُعترف بها في ناموس الحقائق العليا لهذا الكون! مصيره أسوأ بكثير جدّا ممّا كنت أتوقّع يوما أن يكون -ويال صدمة الوعي بذلك بعيدًا عن شعارات كلام الأذن لا اللسان!- وقد كنت وما زلت ممّن لا يحبّون الآفلين. قرّبني ذلك أكثر من حجم كِليهما فصرت أرمق كلًّا منهما بعين أخرى.
وأمّا الصائفة فقد التقيت فيها أوّل مريضة من أولئك المرضى الذين يحفرون بعلامات مقدّسة من "روح ودم" لا تُمحى من ذاكرة طبيب، تلك القائمة الإنسانيّة جدا، عالية التصنيف -وليس شرطًا أن تكون اسميَّة- التي تبدأ في التكوّن مع أولى سنوات تكوينه وحتِّه وتشذيب معارفه وتقنياته وأخلاقه وكل ما فيه..
كانت مريضة من سني حينها، في ظرف أسبوعين، هاجمها فيروس ألهب كبدها وغادرت بعده عالمنا لمثواها تحت التراب. كانت أولى الصدمات التي تخلّلت العظم عندي وأحدثت إعصارًا داخليًّا عاصفًا لديَّ بدون تمهيد وطبعا بدون استئذان. اختلَّ توازن عالم الألفاظ والمفاهيم والحياة نفسها عندي. لأوّل مرّة، أضع نفسي مكان مريض لتلك الدّرجة من التشعّب والأدهى أنّه مريض انتهت رحلته "الطبيّة أو العلاجيّة" إلى مفارقة الحياة. وضعت نفسي مكانها حتّى رأيتني فيها ورأيتها فيَّ. أسئلة كثيرة تتفجّر فيك حينها وهذه المرّة، ليست ككلّ الأسئلة. لمَ هي؟ لمَ المرض؟ لمَ العمر؟ لم تلك الطريقة؟ لمَ الحياة؟ لمَ العلاج؟ لمَ الطبّ؟
ليس استنكارا أو سخطا بل بالعكس، كانت محاولة بأقصى درجات الاهتمام والجديّة وبعجزٍ مُستكينٍ عارٍ لا يحتاج برهانًا، لموقعة كلّ ما يحدث، لفهمه فهما صحيحًا، لأن أعي المجريات والحقائق، لأن أرسم خطًّا واضحًا مُبيّنًا للفصل بيني وبين ما يتجاوزني. لمعرفة حجمي في شيء من التّفصيل.
لم يكن سرطانًا ينتصب في الجسد رويدا رويدا فيترك لنا بعضا من وقت لنتقبّله، ولم تكن جلطة قلبيّة مثلا تقضي ما هي قاضية بسرعة الثواني. كانت لامّة لا هي حادّة ولا هي مزمنة، عوانٌ بين هذا وذاك. تُسمّى التهابا "يسري كسريان النار في الهشيم" فترى اللهب وترى الاحتراق وتعيشه عن قرب يومًا عن يوم قبل أن يتحوّل كلّ شيء إلى رماد.
ترى كيف تتدهور الصحة سريعًا ويستسلم البدن حتّى ما عادت خلاياه النبيلة تعمل، منذ صعودك مع أحد كبار الأطبّاء لمعاينة الحالة بعد اتّصال طبيب من قسم آخر ولاستجلاء الأمر، يقودك الفضول والرغبة في الاكتشاف والتعلّم، فتجد أنّ الوضع منذرٌ ولكنّه نسبيًّا "تحت السّيطرة" وحتّى يصل القصور إلى الدّماغ وتتحوّل المتابعة إلى غرفة العناية المركّزة بقسم الإنعاش فتستمرّ فيها حيث لم يبقَ غيرُ تلك النظرة الثابتة والارتعاشات "البلهاء" التي ترصدها على الملفّ الطبيّ فيتمزّق قلبك لأنّها تعني وبكل بساطةٍ اقترابَ النهاية..
في مرحلة لاحقة، تصير مهووسًا تقريبًا بصورة تلك الفتاة، لدرجة تتوقع معها أن تموت أنت ذاتك في القريب العاجل لمجرّد رصدك التقاءً بسيطًا في أعراضٍ جمعتك في يوم بها دون اعتبار التساوي في السنّ. تغادر مقعد المُعالج المتعلّم لتجلس دون مقدّمات في كرسيّ الإنسان الضعيف الذي ألمّ به مرض في سنوات شبابه الأولى لا يعرف البشر المحيطون به ومنهم الأطبّاء له حلًّا في المتناول محليًّا، ومن ثمّ يتحوّل الكرسي إلى فراش ليس إلّا فراش الموت.
صورة تجتاح مركز قيادة وتنظيم مرور الأفكار في ذهنك وتتطفّل من موقعها ذاك على يومك. وهنا بدأت المخاوف. بدأ الشعور بالغرق. بدأت حمّى البحث عن مخرج، بدأ استجماع شظايا الرغبة في السّير قدمًا، بدأت عمليّة إجلاء أعمدة الرّوح الصّلبة المُعرِّفة للوجود من قِبَل كيان يقترب لأوّل مرّة من المعنى الفصيح المُبينِ لأن يكون حيًّا يُرزق بغير اشتباهات أو غبار.
تنتفض "حرارة" هذه الرّوح ومن بين الملتفّين حولها لا تُحصي غير خالقها تناجيه، تعدّد في صحبته مكوّنات ماهيّتها كجذع في غابةٍ سقطت عنه أوراقه وجزء من الأغصان، وتتعلّم منه كيف تواجه، كيف تنهض، كيف تُعادي الخوف وتلوي ذراعه الطّويلة بمفردها، بوحدتها ورغما عنها. وهنا يصلها في خضمّ المعاناة التي تأزُّها أزًّا معنى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [سورة العنكبوت 2] فترى وتحسّ وتعلم أنّ القول لا يساوي شيئًا أمام المواجهة الحقيقيّة، أمام الموت وبالذّات أمام ما تخبّئه لنا الحياة في صعودها ونزولها.. وأمام المطلوب منّا كفعل وردّ فعل على اختلاف تصريف الأفعال وجذورها..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.