تشدو السيدة فيروز في الخلفية "بيقولوا الوقت بيقتل الحب.."، ولكن ما هو الوقت أصلاً؟
يقول بريان غرين إنه من المستحيل صكّ تعريف للوقت لا يتضمن كلمة "الوقت" نفسها. ويعرّف آينشتاين الوقت بأنه "أيًّا كان ما تشير إليه الساعة". يمكن بسهولة تعميم تعريف آينشتاين ليشمل ظواهر أخرى بحيث يصبح الوزن هو أيًّا كان ما يشير إليه الميزان، والمسافة هي أيًّا كان ما يشير إليها شريط القياس مثلا..
ومع ذلك، ثمة اختلاف في حالة الوقت. فحواسنا الخمس يمكنها أن تزودنا بمعارف تقريبية عن بعض الظواهر، يمكننا أن ننظر إلى المسافة بين جسمين لنقدر ما إذا كانا بعيدين أو قريبين من بعضهما بعضا، وبالنظر أيضا يمكننا أن نجزم ما إذا كان أحد الأجسام كبيرا أو صغيرا، ثقيلا أم خفيفا، وبه نميز الألوان والأشكال. باللمس نتعرف على ملمس الأجسام وبالشم نتعرف على رائحتها، بأي حاسة نقدّر الوقت إذن؟
تحدد الشمس بداية النهار ويحدد غروبها نهايته. دوران الأرض حول محورها يعطينا الأيام المتتابعة وميل محور الأرض خلال دورانها حول الشمس يمنحنا الفصول الأربعة. تخبرنا مواقع النجوم على صفحة السماء عن الوقت والتاريخ. وتزودنا حركة القمر حول الأرض بظواهر شهرية محددة. تتفتح الزهور فتبشرنا بالربيع وتتساقط الأوراق فتنبأ بقدوم الخريف.
أجسامنا وأجسام الكائنات الحية جميعا تعرف الوقت وتبدأ في دوراتها الفسيولوجية بشكل يومي/سنوي/موسمي شديد الانضباط، بعض المواد تفرز بشكل ثابت ليلا، البعض الآخر يفرز نهارا، تنتصب أوراق الأشجار صباحا بينما ترتخي ليلا، وتتغير حساسية الأعين في الليل عنها في النهار وتهاجر الطيور بحثا عن الطعام أو الأليف مع تغير الفصول.
كل هذه الظواهر الطبيعية هي شاهد على الوقت، وهي ساعات في حد ذاتها فالساعة هي أي دورة من الأحداث المتكررة على مسافة زمنية ثابتة. ومن تلك الساعات الطبيعة المختلفة، اخترع البشر أولى ساعاتهم. باستخدام ظل الشمس اخترع المصريون القدماء أقدم ساعة في التاريخ وقسموا اليوم إلى 24 جزءا (12 نهارا و12 ليلا)، ثم قسم اليونانيون كل جزء من الأربعة وعشرين إلى ستين جزءًا تم تقسيم كل منها إلى 60 جزءا أخرى.
في منتصف القرن السادس عشر، تحت سقف كاتدرائية بيزا الأخّاذة، كان الشاب غاليليو يحملق في الفراغ عندما لفت نظره أن المصابيح المدلاة من السقف تتأرجح يمنة ويسرة بنفس الوتيرة، وأنه كلما كانت السلاسل الحاملة للمصباح أقصر، كانت سرعته أقل. ليتأكد غاليليو من انضباط إيقاع تأرجحها، كان عليه أن يقارن حركتها بشيء ثابت ومنتظم كنبض الدم المتدفق في معصمه!
كانت تلك التجربة هي نواة اختراع الساعة ذات البندول.
ومع بداية الثورة الصناعية وسرعة الوتيرة الحياتية، ظهرت الحاجة إلى ساعات أكثر دقة ولها معيار أكثر انضباطا حتى وصلنا إلى قياس الوقت مقارنة بدورات تنقل الإلكترون بين مدارات عدد من الذرات المختلفة.
إذن نحن عاجزون عن قياس الوقت نفسه وإنما ما يتم قياسه هو عدد من "الأحداث": كالنبضات وحركة الشمس ومعدل تردد الإلكترون. أو للدقة، نحن نقوم بقياس عدد من اللقطات الذي يتبع بعضها بعضا وتكون في نهاية الأمر مسافة زمنية.
وإذا كنا نقوم بقياس "عدد اللقطات/الأحداث المتتابعة" فكيف نحكم عليها بالطول أو القصر؟
بإمكانك طبعا أن تمسك بمعصمك وتراقب عقارب الساعة منذ بداية حدث ما (وليكن مثلا رحلتك من القاهرة إلى أسوان) وتصل إلى يقين يقول إن الرحلة استغرقت أربعة عشر ساعة وعشر دقائق وثماني وثلاثون ثانية مثلا.
ولكن العقل لا يقوم بإحصاء اللقطات، وإنما يدرك المدة الزمنية في الغالب بطريقة من اثنتين.
الطريقة الأولى: بتقييم قوة الذكرى التي خلّفها لحدث في إثره فيتصور العقل أن الذكريات الباهتة غالبا ما تكون أقدم من الذكريات الحية النابضة. في المثال السابق، يحلل العقل ذكرى اللحظة التي بدأت فيها الرحلة وبحسب بهتانها أو وضوحها يقرر العقل إذا كان الوقت الذي مر طويلا أم قصيرا.
الطريقة الثانية: هي مقارنة الذكرى المرغوب في تقييم زمن حدوثها بحدث آخر يعرف العقل يقينا زمن حدوثه. تعرف مثلا أن مديرك أتصل بك في الثالثة مساء كعادته وأن رحلتك بدأت بعد مكالمته بثوانٍ معدودة.
لمَ نتحدث عن الذكرى؟ ببساطة لأن الأحداث الآنية ليس لها "مدة" لأنها لم تنتهِ بعد. والأحداث الماضية مدتها تحددها ذكرياتنا عن ميعاد بدء الحدث ونهايته.
إذن لا يمكن لإدراكنا أن يعالج الوقت ثانية بثانية كما تفعل ساعة الحائط. لدى هنري بيرغسون، الفيلسوف الفرنسي والحائز على نوبل، منطقه في مسألة إدراك الوقت: فإذا افترضنا أن أحداث حياتنا عبارة عن أفلام سينمائية تتكون من عدة لقطات ثابتة وملاصقة لما يسبقها ومن يليها من لقطات، فالعلم يرى عدد اللقطات ويحصيها. أما العقل فيرى تدفقها المستمر بشكل كلي لتشكل فيلما ذا معنى.
فلنعد إذًا إلى السؤال الأول: ما هو الوقت الذي يقتل الحب؟
بالنسبة للرياضيات، فالوقت هو مضاعفات الثانية الذرية (والثانية الذرية هي الفترة اللازمة لـوقوع 9,192,631,770 دورة من الإشعاع الذي يقابل انتقال الإلكترونات بين مستويين من الطاقة في ذرة السيزيوم-133).
وبالنسبة للطبيعة، فالوقت هو الفترات اللازمة لوقوع التغيرات اليومية والموسمية اللازمة للبقاء، أما بالنسبة لنا ولفيروز، فالوقت هو تتابع اللقطات والأحداث التي تبعدنا عن اللحظة المكثفة الأولى بالدرجة الكافية التي تبهت معها الذكرى ومن ثم يمكن للحب أن يموت دون مقاومة. أو بكلمة صغيرة على ما تقول فيروز.
ـــــ
المصادر
1- http://plato.stanford.edu/entries/time-experience/#7
2- http://web.missouri.edu/~materert/mod/Bergson.htm
3- http://curious.astro.cornell.edu/physics/161-our-solar-system/the-earth/day-night-cycle/761-why-is-a-day-divided-into-24-hours-intermediate
4- https://www.brainpickings.org/2014/10/20/how-we-got-to-know-steven-johnson-hummingbird-effect-time/
5- The Rhythms of Life – Leon Kreitzman, Russell Foster, Lewis Wolpert ISBN-13: 978-1861972354 (Chapter 1: The Day Within and the Day Without)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.