الأمة التي تخاف من الأفكار أمة ضعيفة ولو ملكت أقوى الترسانات العسكرية، وليس هناك مؤشر أدل على قوة أمة من الأمم من قبولها لرأي جديد أو رفضها إياه بالحجة والبرهان.
ولقد طرح الدكتور "يوسف زيدان" الروائي والباحث في التراث الإسلامي رأياً جديداً لم يسمع به أكثر الناس من قبل، وإن كان مطروحاً منذ زمن في كتب بعض المستشرقين، فحواه أن المسجد الأقصى المذكور في القرآن ليس هو المسجد الذي نعرفه في مدينة المقدس، بل هو مسجد يقع في منطقة التنعيم التي تبعد من مكة نحو من خمسة وعشرين كيلومتراً.
ولم يكد يمر على قوله هذا سنة وبضعة شهور (كان ذلك في صالون الصاوي في محاضراته المعنونة باليهوديات) حتى تلقفته وسائل الإعلام وأذاعته في الصفحات الأولى، فأثار رأيه سخطاً شديداً في العالم العربي كله، ودارت بعض السجالات الفكرية، فمنها ما كان مع مفتي مصر "علي جمعة"، ومنها ما كان مع الدكتور "عدنان إبراهيم"، ومنها ما كان مع الدكتور "محمد عمارة"، وكان أغلبها حواراً راقياً لم ينفلت من عقال الأدب والذوق العام.
ولست أريد من هذا المقال أن أعرض السجال الجاري بين الطرفين ولا أن أبين أخطاء الدكتور التي وقع فيها والمغالطات التي تورط بها، ولكني أريد أن أؤكد أن التعاطي مع المسألة بهدوء إنما هو من صالح الأطراف كلها.
وحسب الدكتور "يوسف زيدان" أنه حرك الماء الراكد وحفز المهتمين بهذه القضية إلى البحث المعمق وتقوية الأدلة التي تؤكد أن الأقصى هو الذي نراه في القدس تأكيداً لا يسمح لأحد بعده بإثارة القضية من جديد.
ما حدث يشبه ما حدث في بداءة القرن العشرين حين طرح "طه حسين" قضية الشعر الجاهلي فشكك في نسبته إلى الجاهلية واتهم بعض رواة الشعر كحماد الراوية وخلف الأحمر بنحل قصائد كثيرة وإسنادها إلى شعراء جاهليين، فأدى ذلك إلى مساجلات فكرية مشهورة بين "طه حسين" وبين "مصطفى صادق الرافعي" و"الخضر الحسين" و"شوقي ضيف" و"ناصر الدين الأسد" (توفي قبل بضعة شهور فرحمه الله) وغيرهم، حتى أثمرت تلك المساجلات أدلة جديدة تثبت صحة الشعر الجاهلي إثباتاً قاطعاً. والحق أن الفضل اليوم في يقيننا من صحة الشعر الجاهلي يعود لطه حسين، وكذلك يعود لأولئك الكبار من الذين تصدوا لإثبات صحة الشعر الجاهلي وبذلوا في هذا الباب جهداً مشكوراً.
على أن الفرق بين "طه حسين" والدكتور "يوسف زيدان" أن الأول طرح موضوعه في كتاب مدعم بالأدلة الوافية، في حين أن الدكتور زيدان أخطأ حين أرسل كلاماً خطيراً كهذا من غير أدلة تسانده ولا تحقيق دقيق يسوق فيه حججه على منهج علمي قويم.
عتبي على الدكتور أنه صرح برأيه للعامة -وغير العامة- في صالون الصاوي دون تمحيص وكأنه حقيقة لا يرتقي إليها الشك أبداً!
فالدكتور سيكون مخطئاً إذا أرسل الكلام على عواهنه في مسألة عادية فكيف إذا كانت المسألة هي القدس والمسجد الأقصى وهي ما هي عليه من الأهمية لدى العرب والمسلمين جميعاً. فعجيب أمر الدكتور، لماذا اتخذ أسلوب "الحبة حبة" فسرب شيئاً من رأيه في صالون الصاوي وشيئاً في الإعلام وشيئاً هنا وشيئاً هناك؟ لماذا – وهو المعروف بالتنوير- أطلق هذه الآراء من خلف الكواليس المظلمة والصالونات البعيدة من العيون؟ هل الأمر كما قال أبو العلاء:
تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار؟
أم الأمر هفوة عالم وكبوة جواد؟ بل هو كبوة، وكم كنت أتمنى لو أن الدكتور تجنبها، ولكن ما فائدة التمني وقد حصل ما حصل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.