عندما تتصدر مصر عناوين الصحف مؤخراً، فإن الأمر غالباً ما يرتبط بنفس الأسباب التي تتصدر سوريا والعراق الأخبار بشأنها، فعلى الرغم من أن هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" ليست بتلك الكثافة في مصر، إلا أن تفجير طائرة الركاب الروسية فوق شبه جزيرة سيناء تصدر الأخبار عالمياً في الخريف الماضي، إلا أن حالة القمع داخل البلاد والتي استمرت بلا هوادة لم تثر نفس الدرجة من الاهتمام العالمي، على الرغم من وصف البعض لتلك الحالة بأنها أسوأ مما عاشته مصر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك.
ريجيني يعيد الأنظار إلى مصر
ربما تغير الأمر قليلاً مساء الأربعاء الماضي، حيث اكتُشِفت جثة طالب دكتوراه إيطالي وعليها آثار تعذيب مما وجه الأنظار العالمية إلى مصر مجدداً. فقد لقى جوليو ريجيني طالب الدكتوراه بجامعة كامبريدج البريطانية والبالغ من العمر 28 عاماً مصرعه بعدما اختفى أثناء توجهه لحضور حفل عيد ميلاد في وسط القاهرة منذ أسبوعين بالتزامن مع ذكرى ثورة 25 يناير/كانون الثاني، حيث وُجدت جثته فيما بعد في منطقة نائية على أطراف القاهرة.
حاول أحد الضباط الكبار بالداخلية إظهار الحادث على أنه حادث سيارة طبيعي، إلا أن آثار التعذيب على جسم الطالب، بما فيها حروق باستخدام السجائر كشفت بما لا يدع مجالاً للشك تعرض الضحية للتعذيب قبل الوفاة. وفقاً لما نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية الأحد 7 فبراير/ شباط 2016.
كما ظهرت على جثة ريجيني أيضاً بعض الجروح القطعية في الأذنين وآثار ضرب مبرح، كما وُجد الطالب عارياً من النصف السفلي من جسده وفق تقارير محلية. ووفق التحقيقات الرسمية المصرية، فإن الطالب قد تعرض لـ"الموت البطيء"، وهو دليل على أن من قتله كان يحاول استخلاص بعض المعلومات منه.
أدلة هامة في مقتل الإيطالي
كانت أبحاث الطالب في مصر تتركز بالأساس على النقابات العمالية المستقلة وحالها عقب ثورات الربيع العربي، مما جعله على اتصال مباشر مع معارضين للحكومة المصرية التي شنت حملة عنيفة على كل منظمات المجتمع المدني، على الرغم من كون ذلك الموضوع لا يبدو شائكاً بتلك الدرجة.
ووفق صحيفة الإندبندنت البريطانية، فقد صرح أحد طلاب الدكتوراه المصريين سابقاً للصحيفة قبل مقتل ريجيني أنه قد يضطر لتغيير أطروحة الدكتوراه التي اختارها حفاظاً على سلامته.
ويوم الخميس الماضي، ظهر أحد الأدلة الهامة في القضية أيضاً وهو عمل الضحية ككاتب حر لجريدة المانيفيستو الإيطالية المحسوبة على الفكر الشيوعي، حيث كتب تحت اسم مستعار لحماية نفسه.
الآن، وبعد التأكيدات على تعرض ريجيني للقتل، تزداد مخاوف النشطاء المصريين الذين تعامل معاهم ريجيني من أن يلاقوا المصير ذاته.
في حين أن احتمالات وصف الحادث على أنه حادث سرقة أو محاولة اختطاف فاشلة أمر لم يتم استبعاده بشكل كامل حتى الآن، ويرى منتقدو الحكومة المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي أن ما حدث لريجيني ليس أمراً جديداً.
السيسي الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري في 2013 كان قد حظي بدعم وتأييد كبيرين خلال السنة الأولى له من الحكم، إلا أن هذا الأمر لم يمنع الحكومة من ممارسة سياسات قمعية خاصةً في الذكرى السنوية لثورة 25 يناير التي أطاحت بنظام حسني مبارك، وهو اليوم الذي اختفى فيه ريجيني.
حالات صادمة
بعد ثلاثة أيام من ذكرى الثورة، أعلن أحد المواقع الإخبارية المصرية عن أن الشرطة ألقت القبض على العشرات من المصريين والأجانب في الجيزة خلال حملة استهدفت بعض الهاربين ومخالفي القانون.
تعمل منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية على توثيق كل حالات الاعتداء على الأفراد في مصر وترصد حالات التعذيب والضرب وغيرها. ففي ديسمبر الماضي، قبل أسابيع قليلة من مقتل ريجيني، نشرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات تقريراً صادماً عن حالات الاختفاء القسري في مصر، حيث وثقت 340 حالة اختفاء قسري خلال ثلاثة أشهر فقط في الفترة من أغسطس/ آب إلى نوفمبر/تشرين الثاني الماضيين، بمعدل وصل إلى ثلاث حالات في اليوم.
ضحايا الاختفاء القسري الذين تم إطلاق سراحهم تحدثوا عن تعرضهم للتعذيب عن طريق الكهرباء والتعليق من اليدين بالإضافة إلى تهديدات بالاعتداء الجنسي.
ألقت المفوضية باللوم الكامل على الحكومة المصرية في كل حالات انتهاك حقوق الإنسان، حيث سمحت للضباط بممارسة تلك الاعتداءات دون محاسبتهم. حيث يحاول نظام السيسي تصوير الأمر وكأنه محاولة للقضاء على "الإرهابيين" الذين يهددون أمن البلاد، إلا أن الكثيرين ممن طالتهم تلك الاعتداءات لا ينتمون إلى أي "مجموعات إرهابية".
قمع غير مسبوق
تحدث شادي حامد زميل معهد دراسات الشرق الأوسط بواشنطن عن اتفاق المنظمات المدنية بشكل كامل على أن حالة القمع الحالية هي حالة غير مسبوقة وربما لم تشهد مصر مثلها في تاريخها الحديث، وأضاف أن القمع ليس موجهاً للإسلاميين فحسب، بل ضد كل القوى السياسية التي تهاجم النظام واتجاهاته، بما فيهم شباب الثورة المحسوبين على التيار المدني والذين كان يُنظر إليهم كمستقبل مصر.
ربما تمثل الحالة الحالية عكس ما تمناه الجميع عقب سقوط نظام مبارك، كما يكرر حلفاء مصر في الغرب الخطأ نفسه الذي قاموا به مع قادة الشرق الأوسط مسبقاً من دعم سياسات القمع والعنف بدعوى الاستقرار.
خلال زيارته للقاهرة في الصيف الماضي، حذّر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من انتهاكات حقوق الإنسان بدعوى مكافحة الإرهاب. كان ذلك قبل أيام قليلة من إعلان واشنطن إرسال طائرات مقاتلة إلى مصر من طراز إف-16 في صفقة بلغت قيمتها 1.3 بليون دولار في خطة لتطوير القدرات العسكرية للبلاد.
كان التقرير الأوَّلي لتشريح جثة ريجيني قد أظهر تعرضه لنزيف في المخ نتيجة للضرب على الرأس. ووفاة شاب محبوب وذكي كريجيني كان مأساة كبرى بالنسبة لعائلته وأصدقائه، إلا أن البعد السياسي في الحادث لا يمكن إنكاره، في حين الشكوك حول وجود دور للأجهزة الأمنية في الأمر أتى ليؤكد مناخ الضغط والخوف الذي تمر به منظمات المجتمع المدني في مصر بعد خمس سنوات من توقعات كبرى بالتحسن عقب الثورة المصرية.
هذه المادة مترجمة من صحيفة الإندبندنت البريطانية، للاطلاع على المادة الأصلية يرجى الضغط هنا.