قمت بتنظيف حجرتي جيدًا بعناية فائقة وأخذت وقتي في ذلك، ثم أعددت الطاولة التي سوف أستذكر عليها دروسي، ثم رتبت كتبي وكراريسي، ونظمت أقلامي، ثم جلست أكتب المواد التي عليّ دراستها، واقترحت على نفسي طرقًا عدة لتنظيم جدول المذاكرة، وعندما أنهيت جدولي بتّ متعبًا، لم أستذكر دروسي ونمت.
أعترف بأن رحلتنا عام ثمانية وتسعين كانت جميلة جدًا، من العاصمة مانيلا إلى الجنوب الفلبيني، رحلة طيران ببعض المطبات الجوية، لكن المطبات الأرضية التي رافقتنا من عاصمة الجنوب إلى أقاصيه – في سفر زاد على ست ساعات – كانت أكثر قسوة، خاصة وأنه قد أصابنا التعب والإرهاق جراء الاستيقاظ مبكرًا والعمل لوقت متأخر، وحمل الحقائب والتنقل، فضلًا عن القلق والتوتر لما قد يقع بالطريق في مناطق يتقاتل فيها أهلها مع الحكومة المركزية في مانيلا.
ولوعورة المكان ركبنا عدة وسائل للمواصلات، من السيارات الخاصة إلى الشاحنات إلى الدراجات البخارية، ثم التقينا بالحاج مراد، القائد العسكري لحركة مورو الإسلامية التي تقاتل مطالبة بحق تقرير المصير سعيًا للاستقلال عن الفلبين، وهي غير قوات أبوسياف المتهمة بارتكاب العديد من أعمال الخطف والقتل.
ثم طلبنا لقاء الرجل، فقيل لنا إنه غير موجود في مقره، ذلك أنه يقوم بجولة على أتباعه في أنحاء المنطقة وسيعود بعد عدة أيام، ابتسمت وقلت لمحدثي لكنكم محاصرون، فكيف يتنقل قائدكم؟ قالوا سيرًا على الأقدام أو على ظهور الماشية. صمتُّ، وفي الموعد عدتُ.
أنزلتنا السيارة في مكان ما، ثم سرنا وسرنا، لا أنكر حسن المشهد في هذه الغابات الفلبينية الجميلة، لكن السير طال، وبدأنا في صعود مرتفعات حتى كدت أطلب الاعتذار والانسحاب، عكست ملامح وجهي تذمري، ضحك المرافقون الحاملون لأسلحتهم، وقالوا اصبر قليلًا.
دخلت على الرجل، فوجدت شخصًا عجوزًا بشوشًا، استقبلنا بترحاب وبادلنا الحديث بالعربية التي يتقنها، كيف لك بربك أن تقطع كل هذه الأميال لتفقد رجالك؟ لقد كدنا نموت مشيًا يا شيخ، هكذا بدأنا الحديث. تكلم كثيرًا عن مطالب حركته، وقال ما ذكرني بالشيخ أحمد ياسين، نحن نحب الحياة، ونحب السلام، غير أننا نريد السلام القائم على العدل.
بغض النظر عن أفكار الرجل وما إذا كنت تتفق معه أم لا، فقد لفت نظري هذا الإصرار العجيب، الذي دفعه لأن يترك نعيم مهجر ظل به أكثر من عشرين عامًا، بعد أن تعلم في السعودية ومصر، كي يعود إلى بلاده ليعيش هذا الضنك ويؤسس لمعركة تسعى للاستقلال أو حتى لحكم ذاتي.
لقد بدأ من اللحظة التي كان فيها خاوي اليدين، خاوي الأنصار، كان معه فقط الفكرة والإرادة، وبهما ناضل، وظل لحوالي ثلاثين عامًا يحمل سلاحه ويطالب بحق تقرير قومه لمصيرهم، ملتزمًا بتعاليم دينه، لا يقتل المدنيين ولا يروعهم وإنما يحصر معركته في الدفاع عن الوطن الذي دخله الإسلام عام ألف وثلاثمائة وعشرة، وعمّره أجداده.
وإذا كان هذا حال "سلامات هاشم الإسلامي"، فإن صاحبنا الآخر شيوعي، اسمه "تشيكو مندس"، له قصة مختلفة، ومن أجلها ذهبتُ إلى ريو برانكو عاصمة أكري، واحدة من الولايات البرازيلية السبعة والعشرين.
في هذه الولاية لجأ السكان الأصليون إلى مهنة جمع المطاط، ورغم ما تعرضوا له كالعادة من استعباد واستغلال من أصحاب الشأن، إلا أنهم تعايشوا مع الواقع، إلى أن بدأ تدفق الإقطاعيين على المنطقة، وهم يحلمون بهدم وإحراق مساحات كبيرة من الغابة وتهيئتها لاستخدامها في تربية الماشية والزراعة، كان ذلك بالنسبة لهم يدر ربحًا عظيمًا، حتى لو كان على حساب السكان الأصليين جامعي المطاط، هؤلاء الذين كانوا قليلي الحيلة.
ولأن "تشيكو مندس" تربى في الغابة، فقد تولد لديه احترام عميق لها، وعاش مع أهله حياة تتسم بالتناغم، فقد كانوا يستخلصون القيمة من الغابة دون تدميرها، وكان هذا الاحترام الغريزي هو ما ولد غضب الرجل حين واجه فيما بعد طوفانًا من الوافدين العازمين على تدمير الغابة.
"تشيكو مندس" كان شخصًا مختلفًا بين أهله من السكان الأصليين، فقد آثر والده أن يعلمه، وعندما بلغ الثانية عشرة من العمر، كان قد تعرف على سجين سياسي شيوعي فارّ اسمه إكليديس فرنانديز تافورا، ولمدة خمسة أعوام كان شيكو يتردد على مسكن تافورا ليتلقى على يديه أفكار ماركس ولينين وتاريخ البرازيل السياسي، علاوة على الكثير مما كان يدور في العالم خارج حدود الغابة المطيرة، وعن طريق تلك الأمسيات التي قضاها مع تافورا، صار مندس مهيأً لتنظيم النقابات وسط جامعي المطاط في أكري وتبني مطالبهم وتنظيم الاحتجاجات والدفاع عن الغابة.
لم يكن هناك ما يوحي بالنصر، فقراء مسالمون في مواجهة قوى رجال الأعمال وما يواكبهم من فساد ورشاوى قادرة على إبطال أي قوانين محلية يمكن أن تنصف السكان الأصليين أو غابتهم، لكنه قرر البدء في النضال دون تردد ولا تفكير. ومنذ عام خمسة وسبعين وتشيكو مندس يخوض حربًا لا هوادة فيها لنصرة شعبه وللحفاظ على غابات الأمازون التي يعملون بها ضد محاولات تجريفها.
احتدمت المعارك ووقف يومًا يقول: "لا أريد سوى أن يسهم موتي في ردع القتلة، الذين قتلوا حتى الآن خمسين رجلًا مثلي من قادة جامعي المطاط الملتزمين بإنقاذ غابة الأمازون، المناضلين من أجل إثبات أن التقدم ممكن بدون تدمير الطبيعة".
في بيته، وتحديدًا في المطبخ قالت لي ابنته ألنيرا مندس: "كان والدي جالسًا هنا على هذه المائدة مع شرطيي الحراسة اللذين خصصا لحمايته من تهديدات الاغتيال، وكان يلعب معهما الدومينو، فيما كانت والدتي تعد طعام العشاء. كان من عادة والدي الاستحمام قبل الأكل، فتوقف عن اللعب واتجه خارج البيت نحو الحمام ممسكًا بمصباح يدوي ليبدد الظلمة، وما أن فتح الباب حتى غمره الرصاص فاتكأ عليه وهو يقول لقد نالوا مني. وعلى وقع الهجوم هرب الحارسان وقفزا من هاتين النافذتين".
وهكذا اغتيل "تشيكو مندس" في الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول عام ثمانية وثمانين، بعد عيد ميلاده الرابع والأربعين بأسبوع تمامًا. وبعدها احتفى العالم الظالم بذكراه، وأنشأ محمية باسمه، وقد زادت لتصبح أكثر من عشرين محمية، وغنى له كثيرًا مشاهير المغنيين العالميين، وعُدّ أول شهيد للبيئة.
في العاصمة الرواندية كيجالي كنت أقوم بدورة تدريب على صناعة الفيلم الوثائقي، وقد اختارت مجموعة من المتدربين العرب إنجاز فيلم عن "ميتو رغامبا"، رجل بسيط يعمل مصمما للأزياء، حضرت شطرًا من المقابلة معه، أدهشني وهو يعترف بفشله المتتالي في مشروعات عدة خاضها، ثم قال ما أعده حكمة: "كلما فشلت كلما شعرت أني أقوى".
سأله المحاور عن سبب اختياره لهذا المهنة بالذات، أجاب بأنه كان يبحث عن عمل لا يدر عليه وحده فائدة وإنما على وطنه وعلى شعبه، وقد اجتهد فوجد أن رواندا ليس بها بيت للأزياء نهائيًا، وقد أراد أن يسد هذا الفراغ رغم أنه لا خبرة له بهذا المجال مسبقًا، ومن ثم لجأ إلى أن يبدأ بصناعة الكرافتات والأشياء البسيطة.
شاب صغير لكنه يبدو ملهمًا جدًا وهو يروي حكايته، قال إن الفن قادر على تغيير نفسية الناس في بلد شهد مذابح مروعة، وابتسم وهو يضيف أنه بدأ مشروعه بثلاثمئة دولار. واللطيف أن الزملاء المتدربين اختاروا عنوانًا عظيمًا لفيلمهم وهو "لا أبرح حتى أبلغ".
ذكرني هذا الشاب بهذا الرجل العجوز الذي لا أملّ من قص حكايته، التقيته في وقت فراغ وأنا أعد فيلمًا عن شعبه تتار القرم الذي هجّرهم ستالين، وهاهم يعودون بعد سقوط الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفييتي، وقد انصرف الناس إلى تأمين احتياجاتهم بعد أن وجدوا بيوتهم وقد سكنها الروس.
في دكان صغير مظلم، جلس الشيخ الهرم ينقش في بعض الحُلي، وعندما سألته أجاب، هذه مثل الحُلي التي عندكم في خان الخليلي بمصر، عندما هُجّرنا لم يمنحنا جنود ستالين فرصة أن نلملم أشياءنا، هذا التراث التتري يكاد ينقرض حتى بعد أن عدنا، أنا هنا أحاول من ذاكرتي أن أنقش من كل حلية مثالًا حتى تبقى للأجيال يصنعون مثلها وهم يستردون هويتهم على كل الأصعدة.
الرجل لم ينتظر المنظمات الدولية الثقافية، ولا العالم الإسلامي، ولا حتى رفاقه، لقد قرر أن يبدأ، وفق طاقته وقدرته، يسد بابًا لم يسده أحد حتى وإن بدا غير مهم. في زمن الفتن وفي المعارك الكبرى عليك أحيانا أن تخوض معركتك الصغرى.
هذه الحكايات ظلت منقوشة في مخيلتي تلهمني كلما ضعفت طاقتي، إنها حروب منوعة، وعلى أصعدة مختلفة، لكن السر الذي يجمع بينها أن أحدًا لم ينتظر أحدًا، وأن أحدًا لم يعتذر بقلة الإمكانات وقوة العدو المتربص، وضبابية المشهد، فقط بدأ، فقط عزم وبدأ.
إياك وأن تفعل مثلما فعلت أنا في بداية حكايتي هذه، التخطيط مهم للغاية، لكنه أحيانًا معطل. ابدأ، في بعض معارك الحياة يكون كل ما عليك أن تبدأ، وأن تصلح من مسارك وأنت تسير، لا تنتظر دعمًا من أحد، ولا معطيات مثالية، المسألة ببساطة هكذا، الحلم مثل الحب، لا ينتظر تأجيلًا ولا تسويفًا.
أتذكر ماجدة الرومي في الفيلم الشهير عودة الابن الضال وهي تقول لهشام سليم: "إحنا لبعض يعني دلوقتي حالًا الآن فورًا"، لكننا لا نفعل ذلك، الأدهى أننا نشتكي أننا لا نصل إلى ما نريد، بربك كيف نصل ونحن لم نبدأ؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.