العنف في المحتوى الرقمي

كل هذا التلقي السلبي أثّر جذريًّا في عقلية تفكير وقناعات الشخص في العالم العربي، وأصبح العنف جزءًا من حياته اليومية، هو جزء من المحتوى الذي يراه على الإنترنت، وجزء من نشرة الأخبار التي يشاهدها، كما هو جزء مما قد يمارسه من عنف ضد أهله وذويه، نتيجة لهذا التأثر بالضغط العنفي الكبير.

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/05 الساعة 05:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/05 الساعة 05:22 بتوقيت غرينتش

في الحديث عن العنف في المحتوى الرقمي، فإنه يتطلب علينا الحديث عن العنف كسلوك يتبناه ويمارسه البعض، ثم الحديث عن العنف الرقمي، والذي ظهر مع الثورة الرقمية الكبرى، ثم يتفرع عنه الحديث عن المحتوى الرقمي الذي هو جزء من الحديث عن العنف، وجزء أيضًا من العنف الرقمي.
لكن لا يسعفنا هذا المقال سرد كل هذه الأشياء.. فهناك من أشبعها بحثًا، الأهم هو حديثنا بشكل مخصوص عن العنف في المحتوى الرقمي وأسبابه التي أدت إلى تزايده.

فالعنف مشكلته هي عندما تحول من أداة إلى فكرة عقدية مقدسة، بدل من أن تكون العصاة أو السكين أو المسدس أو التهديد الجسدي والنفسي أدواتًا للعنف، تحول إلى عقيدة ومنهج لبعض الجماعات، والتي عززت وجودها الرقمي لكثير من الأسباب، سبق أن ذكرتُ بعضها في الحديث عن الحسابات الوهمية وبأسماء مستعارة.

العنف في المحتوى الرقمي، بإنشاء حسابات ذات طابع انتقامي وظلامي، تتحدث بالتكفير والتفجير، وتتبنى القصاص من كل أحد، وتنشر فكرة الانتقام وعبارات الذبح والنحر.
وفي الغالب يكون هذا المحتوى موجها من قبل فكر تطرفي تكفيري، أو من قبل جماعة ضد جماعة، أو من قبل متخاصمين اثنين في قضية سياسية أو اجتماعية أو حتى شخصية.
إثارة هذا العنف في المحتوى أصبح شبه روتيني، ولم يعد يشكل استنكارا في بعض الأحيان، وهذه مشكلة كبرى أن يتحول الانحراف إلى أن يكون مألوفا، ويدخل العنف إلى عقول وبيوت الناس وفي وعيهم الباطن ليحولهم إلى أشياء وينسيهم أنهم بشر.

في الإحصائيات، فإن المحتوى الرقمي يعادل ثلاثة ملايين ضعف المعلومات الموجودة في جميع الكتب التي كتبت حتى الآن، أو ما يعادل 12 رزمة من الكتب، كل منها تمتد لأكثر من 93 مليون ميل من الأرض إلى الشمس!
هذا، حتى نستوعب كمية المعلومات الموجودة في الفضاء الرقمي، فكيف إذا غزاها العنف واستفحل فيها؟!

وهذا الانفتاح الرقمي الكبير والهائل مهَّد الطريق لبزوغ مرحلة من عنف المعلومات الضاري وشديد القسوة في العلاقات الدولية والشخصية لم تعهده البشرية من قبل، وذلك لأسباب عديدة تتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي وفرت أدوات سهلة ومتاحة لإنتاج ومعالجة وتوظيف ونشر هذا المحتوى الرقمي، وتولد عنها مخاطر مختلفة عملت كموارد وينابيع لعنف المعلومات على المستوى الدولي والجماعات والأشخاص وجميعها يتعلق كما سبق القول بإساءة استخدام قوة النشر وتوزيع المعلومات.

حيث نرى الفن التقني والتصويري الكبير في إنتاج الجماعات المتطرفة لأنواع العنف غير المبرر، بطرق وكيفيات غريبة وغير مسبوقة، إضافة إلى تصوير أي حالة عنف شاذة من قبل هذه الجماعات، كتصوير تفجير الأنفس وقتل الأقرباء، وكل ذلك إضافة سيئة للمحتوى الرقمي المرئي والمسموع والمقروء أيضا.

ومن أشكال العنف في المحتوى الرقمي.. مخاطر محلية تستهدف كل شرائح المجتمع، وتضم مظاهر العنف الرمزي كأفلام العنف ومناظر الجنس والابتزاز الإلكتروني وغيرها، والمعلومات المنفلتة التي من شأنها تأجيج الصراعات العرقية والدينية وخلخلة التماسك الاجتماعي، وفي عالم الإعلام غلبت المعلومات ذات الطابع الترفيهي الإعلاني على المعلومات ذات الطابع التنموي، مما قلل وأضعف تنمية الأفراد وقدراتهم على التصدي لمثل هذه المخاطر.

ومن أبشع أشكال العنف التي انتشرت بشكل كبير جدا، هي ألعاب القتل والقنص والطعن، للوصول لغاية ما، والتي تجعل الشخص يعيش في حالة سوداوية يمارس بيديه الإلكترونيتين القتل وإطلاق النار، ويفرح كل الفرح بقتل أي أحد من المواجهين، مما يجعل لديه ردّات فعل نفسية سيئة في الواقع الذي يعشيه، حيث ينقل واقعه الافتراضي إلى واقعه الحقيقي وهذه من أعظم المخاطر وخصوصا على النشء، وزاد هذه الألعاب بلاء كونها متوفرة على الأجهزة الذكية، والتي تزيد من ساعات اللعب فيها والعيش معها..

من أكثر أسباب انتشار هذا العنف في المحتوى الرقمي هو الفضاء المفتوح لأي أحد دون رقابة دولية عامة أو خاصة، وعجز الدول عن حماية شعوبها ضد الإعلام الضار وسيطرة المرسل على المتلقي، مما يجعل المتلقي تحت رحمة الرسائل الإعلامية من المرسل بكل ما وراءها من أهواء وعنف متزايد.

ومن المخاطر الكامنة في طبيعة التكنولوجيا، من مظاهرها إدمان الإنترنت وطغيان حوار الإنسان مع الآلة على حوار الإنسان مع أخيه الإنسان، وظاهرة الإفراط المعلوماتي أو حمل المعلومات الزائد، ومخاطر انسحاق العقل الإنساني في مواجهتها.

وإدمان الإنترنت وتفشي آفة التلقي السلبي وطغيان الرقمي على الكتابي مما يحرم المرء من مزايا التعامل مع النصوص المكتوبة التي تزيد من قدرته على التأمل والنظرة النقدية والعيش الطبيعي والسوي.

ثم تُعَدُّ المنطقة العربية والشرق الأوسط عمومًا في مقدمة مناطق الاستهداف الأولى لعنف المعلومات الدولي، للأسباب السياسية والدينية والحضارية المعروفة، التي جعلت من هذا الشرق أكثر مناطق العالم التهابًا وأكبر مسرح للصراعات السياسية والحضارية والدينية، ومن ثم أصبحت تلقائيًّا أكبر ساحة يصب فيها عنف المعلومات على اختلاف مشاربه وتوجهاته، وإن كانت المنطقة -كما يرى بعض الباحثين- "تقع الآن في مرمى عنف المعلومات الصادر عن التكتل الإنجليزي الأميركي أكثر من غيره، فهذا التكتل يعلم جيدًا ما تتمتع به المنطقة من ثروات هائلة حيوية في مقدمتها البترول وما تتمتع به من موقع جغرافي فريد، وتاريخ وإرث حضاري يناطح الحضارة الغربية وعقيدة إسلامية يراها الغرب مصدر التهديد الحقيقي له على المدى الطويل، ولذلك يتوجه القسم الأكبر من عنف المعلومات الذي يمارسه هذا التكتل إلى المنطقة"!

كل هذا التلقي السلبي أثّر جذريًّا في عقلية تفكير وقناعات الشخص في العالم العربي، وأصبح العنف جزءًا من حياته اليومية، هو جزء من المحتوى الذي يراه على الإنترنت، وجزء من نشرة الأخبار التي يشاهدها، كما هو جزء مما قد يمارسه من عنف ضد أهله وذويه، نتيجة لهذا التأثر بالضغط العنفي الكبير.

لستُ أملك حلًّا جذريًّا ولا جزئيًّا للتصدي لمثل هذا العنف، ولكن كل ما نملكه هو أن نتجنب قدر الإمكان التعرض لهذا العنف، والبعد عن أماكن تواجده وطرحه وتلقيه.

يمكننا أن نقي أنفسنا وأبناءنا من هذا العنف بالتعامل الإيجابي مع الرقميات، من حيث المقاطع التي نشاهدها والصوتيات التي نسمها والحسابات التي نتابعها والمقالات التي نقرأها والألعاب التي نلعبها.

هذا أكبر ما يمكن أن نقاوم به هذا العنف الجارف الذي يغزو العالم العربي بشكل فظيع، حيث نرى ونسمع قصصًا من آباء مكلومين بأبنائهم، يخرج -الابن- من غرفته وانطوائيته إلى مسجد ليفجِّره، أو إلى رجل لينحره، فيتفاجأ الأب بأنه لم يشهد عليه أثرًا سلبيًّا ولم يعهد عليه سلوكًا مريبًا، وفي الحقيقة هو نتيجة التعرض للعنف الرقمي اليومي، مما رسب في عقليته وعقيدته كل هذه السلوكيات العدوانية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد