رصدت جيني جوستافسون، الصحفية بـ"الإندبندنت" والتي تقيم في بيروت، كيف كانت العاصمة اللبنانية قبلةً للمهاجرين وملاذاً للفارين من الحرب والاضطهاد، على مدار القرن الماضي وحتى اليوم، وتحدثت عن بيروت في ظل وجود تنوعٍ كبير من اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعراقيين والأرمن وغيرهم.
الصحفية جيني في مقال لها بصحيفة الغارديان البريطانية، الخميس 4 فبراير/شباط 2016، نقلت شهادات حياتية يومية للاجئين داخل المدينة التي تتنوع فيها الطوائف والأديان والجنسيات، وأشارت إلى ما وقع بالمدينة من تغييرات اجتماعية.
وأنهت مقالها برصد تلك التغيرات، وقالت إن هذا ما حدث بالضبط في بيروت، فقد تحول برج حمود إلى منطقة تجارية وحرفية، أما صبرا، الحي المتاخم لشاتيلا، فهو سوقٌ كبيرة للخضراوات مخصصة للعمال المهاجرين، ومحلات الحلاقة الإثيوبية، والميني ماركت التي يملكها بنغلاديشيون ومحلات مأكولات جنوب آسيوية، معتبرة أن كلها علامات على ذاك التغيير.
وإلى نص المقال:
إلى بيروت بكل أمل: كيف تفسح المدينة المفعمة باللاجئين مجالاً لوافدين جدد
يبدو أن قوارب اللاجئين باتت بمثابة رمز لعصرنا هذا، ومع ذلك لم تكن تلك القوارب هي أول ما يعبر البحر المتوسط. وفي ذلك الحين، كانت سوريا ولبنان مقصدين وليستا نقطتي رحيل.
منى فواز، الأستاذة المشاركة للتخطيط العمراني في بيروت، قالت: "كانوا يأتون بالقوارب إلى بيروت ويستقرون في البداية في الكرنتينا، حيث كان الوافدون يخضعون للحجر الصحي قبل دخول المدينة". وتقوم فواز بتأليف كتاب حول المناطق العشوائية بالمدينة وكيف قام اللاجئون والوافدون الجدد ببنائها.
وأضافت فواز: يعتبر المهاجرون جزءاً لا يتجزأ من بيروت. فقد قاموا بتشكيلها على مدار التاريخ من خلال مجموعة من مكاتبهم التجارية وقدرتهم على إقامة أماكن صالحة للعيش.
جاء الفلسطينيون والعراقيون والآشوريون والسودانيون وأخيراً السوريون كلاجئين إلى بيروت. ووفد اللبنانيون من المناطق الريفية أيضاً نزوحاً إلى بيروت جراء الحروب والنزاعات. وأصبحت الأماكن التي استقروا بها – حيث مكث العديد ولم يرحلوا – جزءاً من الطبيعة الحالية للمدينة.
وانتقل العديد من اللاجئين الأرمنيين من منطقة الميناء إلى مخيم يقع شرقي المدينة يدعى برج حمود، وقد تمت إقامته بمنطقة مستنقعات بالمناطق الريفية. وسرعان ما تحولت إلى مناطق سكنية بسيطة تحمل أسماء مثل سيس وماراش وأدانا، وهي مناطق كان اللاجئون قد هجروها.
وقالت آربي منجاساريان، اللبنانية الأرمنية التي ولدت في بيروت وتترأس حالياً مكتب التخطيط الفني والعمراني ببرج حمود: "جاءت جدتي إلى بيروت مع أطفالها الثلاثة، بعدما كانت قد انتقلت كلاجئة على مدار سنوات. وعلمت أنه يمكنها العيش مع أرمنيين آخرين هنا دون أن تشعر بالغربة. هذه المنطقة تحمل شعوراً مقدساً وتروي قصصاً عن الإيمان والبقاء على قيد الحياة. وليس ذلك بطريقة بقاء الحيوانات على قيد الحياة، بل كيفية البقاء ومواصلة ابتكار أشياء جديدة".
وتحول منزل منجاساريان القرمزي ذو النوافذ المطلة على الشارع إلى مركز مجتمعي بناءً على مبادرة شخصية دعماً للفن والثقافة المحليين. الظلام دامس بالخارج حالياً (حيث تمكث بالمركز حتى وقت متأخر كل ليلة)، وقد انتهت من قصة عائلتها: الاستقرار في بيروت واتخاذ قرار بالبقاء وعدم التطلع إلى الماضي.
وتابعت منجاساريان: "ولكن من الخطأ أن نعتبرها قصة. ما حدث لهم شيء واقعي يحدث للسوريين اليوم، نفس الشيء تماماً".
وفي المدينة، عبر الشارع المؤدي إلى المطار، يقع مخيم شاتيلا الذي أقيم ليكون أحد المخيمات الفلسطينية في بيروت. بدأت أمطار الشتاء في الهطول وامتلأت الشوارع ببحيرات المياه. وفي شارع ضيق، تجلس زهور دامريا التي فر والداها إلى لبنان عام 1948. وتوجد ماكينة خياطة ثقيلة خارج منزلها مباشرة، فهي تعمل خياطة وتفضل العمل خارج المنزل (إضافة إلى عدم وجود مساحة كافية داخل منزلها تتسع لتلك الماكينة).
وقالت دامريا: "هذا موطني وأنتمي إليه. ولكن مخيم شاتيلا لا يمكن العيش فيه بسهولة. وتتذكر أيام الحرب. ففي عام 1980، وخلال المذبحة، تمكنت بالكاد من الهرب مع أطفالي. حملت كل طفل على أحد ذراعي وفررت".
بدأ مخيم شاتيلا على غرار برج حمود، حيث كانت منظمات الإغاثة تقيم الأكواخ البسيطة، ثم توسع تدريجياً ليصبح مكاناً للإقامة الدائمة. وعلى النقيض من برج حمود الذي يحظى حالياً ببلدية خاصة، لم يتم السماح لمخيم شاتيلا بأن يصبح حياً متكاملاً مستقلاً. وحصل الأرمنيون على الجنسية اللبنانية في العشرينيات من القرن الماضي، بينما ظل الفلسطينيون من دون جنسية ولم يكن مسموحاً لهم بامتلاك أي عقار خارج المخيم أو العمل وفقاً لنفس شروط العمل التي يحظى بها اللبنانيون.
وتابعت فواز بقولها: "المخيمات أماكن اجتماعية حيث تسير بشوارعها وتتلقى التحية من الجميع. ولكن المؤسف في الأمر أنهم لا يوفرون أي فرص اقتصادية، أو حتى حداً أدنى من القدرة على المعيشة".
تسير امرأة باتجاه دامرية خارج منزلها ممسكة بفستان مرقع، ثم تدفع لها مبلغ 1000 ليرة (أقل من نصف دولار). تبادرها دامرية بينما تتناول الورقة النقدية بالقول: "لكن هذا قليل لقاء العمل"، لكنها كذلك تقول: "إنها سورية وأعرف أن لا طاقة لها بمبلغ أكبر".
تشير إلى بضعة منازل على طول الطريق وتقول إن بها عائلات سورية كثيرة تقطنها الآن، وأن بعض المالكين أضافوا طوابق إلى مبانيهم المرتفعة أساساً لبناء غرف جديدة.
بالنسبة للعديد من السوريين، تعد المخيمات الفلسطينية من بين الأماكن القليلة غير مكلفة، فعدد قليل منهم – ممن لديهم مدخرات أو مهن يعتاشون منها – يستأجر شققاً في بيروت وغيرها من المدن. أما البقية فيبحثون عن مأوى في أي مكان، مزارع إيجار، مساكن فارغة، مرآب وكراجات سيارات مهجورة.
هناك منزل صغير بحوائط خشبية في زقاق بالقرب من متحف بيروت الوطني يبدو كأنما يتكئ على البناء المجاور له. هنا تسكن وداد برغوز وعائلتها من إدلب السورية.
وقالت وداد: "زوجي هو من بنى البناء، فهو يعمل في موقع بناء مجاور ورأى أن ها هنا مرآب سيارات مهجوراً، فسأل المالك إن كان في وسعه بناء بيت ها هنا".
تجلس خارجاً أمام كوب من المتة، ذلك المشروب الذي جاء به المهاجرون العائدون إلى وطنهم من المهجر في أميركا الجنوبية قبل بضعة أجيال. وأضافت برغوز أن الحياة هنا مختلفة عن إدلب بالطبع، ففي سوريا كان لديهم منزل في الريف وقطعة أرض لهم مع أبقار وأغنام، لكنهم على الأقل بأمان هنا.
ينام الكثير من السوريين الآخرين من حراس أبنية ونواطير وعمال بناء وباعة محلات صغيرة في أماكن عملهم ببساطة. محمد محمد طالب فلسفة من الحسكة شمال شرقي سوريا، تنقل هنا وهناك منذ دخل لبنان، فعندما كان مشغولاً ببناء كاسر أمواج إسمنتي كان ينام على سطح صهريج على الكورنيش الساحلي. قهوته كان يعدها على موقد غاز كل مساء، أما جليسه ومؤنس وحدته فكان كلباً ضالاً اسمه "طرزان"، ظهر فجأة بجانبه ذات يوم.
وقال محمد: "أعيش وحدي ولذلك أتدبر حياتي هكذا. لم أطلب مساعدة من أحد لأني أعرف أن هناك عائلات كثيرة أولى مني بالمساعدة".
وبالنسبة لسكان بيروت بات تقاسم مدينتهم مع اللاجئين جزءاً من الحياة، فالتعايش ضرورة، إذ إن كلاً من المواطنين واللاجئين يدركون أن العودة لن تتم ما دام الصراع دائراً. وغالباً ما تربط الناس ببعضهم علاقاتٌ تعود إلى فترة ما قبل الحرب، إذ لطالما عاش السوريون وعملوا في لبنان، ومن غير الممكن معرفة الأرقام الدقيقة (فكما تقول فواز: "نحن لا نحب الأرقام في هذه البلد، بل نفضل ما يسمى "الرياضيات الإبداعية")، لكن الجالية كانت كبيرة.
وفي أماكن أخرى من بيروت تحولت مناطق كثيرة بالشكل ذاته إلى مخيمات لاجئين، فالحرب الأهلية اللبنانية أقفرت أحياء بأكملها من سكانها، لتصبح هذه شواغر سكنية في وسع الآخرين الانتقال إليها.
الأوزاعي، وهو أحد الأحياء المحاذية للبحر جنوب بيروت، هو أحد هذه الأحياء. الحي الذي كان يوماً قرية هادئة، ثم وجهةً سياحيةً شهيرة، أصبح الآن حياً مزدحماً، بيوته ومحلاته عشوائية تأوي عائلات النازحين من أرياف لبنان.
وقالت فواز: "شجعت الأحزاب السياسية الناسَ على احتلال الشواطئ، وفي بدايات ستينيات القرن الماضي، قام مختار الحي الذي آمن بفكرة أن الأرض يجب أن تكون مشاعاً ببناء بيتٍ بجانب الشاطئ كعلامة احتجاج".
الكثير من المدن لديها تاريخ في استضافة اللاجئين، لكن لا شك أن الصورة التقليدية لمساكن اللاجئين – صفوفٌ مستقيمة من الخيم المنصوبة على أرضٍ قاحلة بعيدة عن المدن – هي صورة مضللة. فمعظم للاجئين اليوم يسكنون في المدن، حيث يساهمون في الاقتصاد المحلي ويخلقون أشكالاً جديدة من الحركة والانتاج.
هذا ما حدث بالضبط في بيروت، فقد تحول برج حمود إلى منطقة تجارية، مأهولة بالمحلات الرخيصة وحرفيي الصناعات التقليدية، أما صبرا، الحي المتاخم لشاتيلا، فهو سوقٌ كبيرة للخضراوات مخصصة للعمال المهاجرين ذوي الأجور المنخفضة الذين انتقلوا إلى هناك بسبب موقع الحي وخيارات النقل الرخيصة. محلات الحلاقة الإثيوبية، محلات الميني ماركت التي يملكها بنغلاديشيون والمحلات الأخرى التي تقدم مأكولات جنوب آسيوية، كلها علامات على ذاك التغيير.
رغم هذا التغير، لا تزال المناطق الأرمنية والفلسطينية تعرض نزوحها وهويتها. وأحد الرسوم في شاتيلا يجسد خريطةَ فلسطين ما قبل عام 1948.
لكن هذه التجربة التي تعيشها بيروت تختلف عن معسكرات اللاجئين الرسمية، حيث الحدود مرسومةٌ بوضوح. "اللجوء" في السياق اللبناني عمليةٌ أكثر سلاسةً، وهي انعكاسٌ لتغير اجتماعي مستمر. بهذا المعنى، فإنه يجسد عملية التمدن السريعة للعديد من المدن العالمية، حيث يخلق السكان الوافدون أماكنَ جديدة للعيش.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية، للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.