ثنائية قبول العمل

إن نتائج أفعالنا المختلفة في البعد الكوني بكل مكوناته الإنسانية والإعمارية والحيوانية والزراعية هي الدليل على حسن أفعالنا من عدمه، وحيثما كانت النتيجة نافعة أكثر، كان ذلك دليلا على قبولها ومآل صاحبها

عربي بوست
تم النشر: 2016/02/01 الساعة 03:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/02/01 الساعة 03:03 بتوقيت غرينتش

الأعمال هي ميزان الإنسان يوم القيامة، إن كانت أعمال خير كان مآله إلى خير، وإن كانت شرا فمآله إلى غير ذلك، فما هو ميزان تقويم الأعمال الحقيقي والذي على المرء معرفته على وجه الحقيقية في الدنيا؟

إن نتائج أعمالنا هي خير دليل على كون أعمالنا صحيحة أم غير ذلك، ولعل أكبر الاخطاء التي نرتكبها في ميزان الأعمال، هو تجاهل نتائجها أو إهمال النظر لأثرها أو اعتبار مآلاتها قضية ثانوية ليس علينا إدراكها، فالأعمال بالنيات ويكفي ذلك! أما ما يحصل من نتائج بعدها، فليس ذلك من مسؤولياتنا، وإنما يكون ذلك لله!

ولعل جملة هذا الفهم الخاطئ هو ما أوردنا المهالك الجمة، وهو ناتج عن فكرة كون قيامنا بأعمالنا وإقامة شعائر الله غايات بحد ذاتها! وليست وسائل لتحقيق أهداف أسمى، فبحسب ذلك الفهم فإن قيامنا بالصلاة هو غاية أعمالنا! أما نتائج تلك الصلاة فلا أهمية له مطلقا، وكذلك الأمر في الزكاة فإنها وإن لم تثمر انتشالاً للمجتمع من براثن الفقر والجوع، فالمعول عليه أداؤها! ولا أهمية للنتائج أيا كانت! فقد سقط التكليف بأدائها، وكذلك هي الحال مع بقية الشعائر وكذا الشرائع، فلا أهمية لما تنتجه بل المعول عليه تطبيقها فحسب، ونتائجها موكلة إلى الله. وهنا يكمن الفهم الخاطئ..

إن الأعمال بكليتها سواء تلك التي تعتبر شعائر تؤدى لله، أو تلك التي يتوجه فيها العمل لخلق الله، لا يمكن أن تكون مقبولة عند الله ما لم تحقق ثنائية في نتائجها، رضا الله أولاً، والذي لا يتحقق إلا عندما تكون أعمالنا لا تُلحق بأحد منةً أو يصيبه منها أذى، ويبرهن على هذا الأمر واقعًا بلوغه النتيجة الثانية منها؛ وهو المنفعة لخلق الله؛ فكلتا النتيجتين كلُّ لا يتجزأ، وما لم تتحقق تلك الثنائية على مستوى النتائج في أعمالنا، فلربما كان العمل منقوصا أو غير مثمر، وبالتالي فلا فائدة مرجوة من أدائه حتى ولو كان صلاة أو زكاة أو حجَّا أو إعمارًا أو طبًّا أو غير ذلك.

لقد أكدت النصوص على تلك الثنائية في ثناياها، وأنها هي مقياس القبول للأعمال، فالصلاة لا تكون صلاة إن لم تثمر نهيًا عن الإتيان بالفحشاء بكل أشكالها القولية والفعلية وحتى الذهنية للمصلين، أو نهيا عن المنكر بكل سماته التي ينكرها مجتمع ما (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) ولعل أعظم من ذلك هو بقاؤك في حال تعاملك مع الخلق ذاكرًا لله (ولذكر الله اكبر) فتهذب طباعك وتعاملاتك مع كل ما يحيط بك.

وفي الحديث (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا) وفي رواية (من لن تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) وكذلك الأمر في الصيام، فتعليل فرضه ليس للإتيان به وحسب، بل علة فرضه التقوى (.. كتب عليكم الصيام… لعلكم تتقون) والتقوى ميدانها الخَلق، وفي الحديث أيضا (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) إنها للتأكيد على تلك الثنائية الملحة في كل الأعمال، وكذلك الأمر في الحج فأساسه الأول كما بيَّن كتاب الله (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وفي الحديث (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) ولعلنا نلاحظ أن ثمرة تلك الشعائر لا تكون حلما يخالج المشاعر، أو إحساسا بالرضا يتبع أداءها، بل هو أثر ظاهر على خلق الله من إنسان وحيوان ونبات وجماد في المجتمع.

لقد شبه رسولنا -محمد صلى الله عليه وسلم- ذاك الذي لا يدرك تلك الثنائية التي لا تفترق ويرى أنه بأدائه لتلك الشعائر ناجٍ لا محالة! -بحسب ما يظن ويعتقد- شبهه بأنه مفلس وأنه قد أضاع آخرته ودنياه، ففي الحديث (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته، وصيامه، وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أُخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار".

إن الأعمال الصالحة بكليتها هي تلك التي تفرز سعادة مجتمعية ورضا يغشى وجوه الناس وتقدما على نحو ينتج مزيدا من الارتقاء في كل فئات المجتمع، وهذه الآثار هي النتيجة المرجوة من أداء الشعائر وإنفاذ الشرائع والقيام بمختلف الأعمال مهما تعددت أشكالها وهيئاتها.

لقد كان الإضرار بالناس هو المعنى الأول لنهي النبي أن يصلي في مسجد أنشئ لله بزعم من بناه، (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا..) وحينما تكون تلك المساجد منبرا تفرق الناس بدلا عن أن توحدهم، وتدعو إلى الحرب بدلا عن أن تشجع السلم، وإلى الاقتتال بدلا عن الوئام، وتدعو إلى الشر بدلا عن الخير، وإلى الدعاء للظالم بدلا عن إنصاف المظلوم، وتروج للباطل بدلا عن أن تكون منبرا للحق، هنالك تصير تلك المساجد أماكن يُدعى فيها لغير الله (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا). وعندما يكون الأمر كذلك فإنها لا تستحق أن تدعى مساجد الله (لا تقم فيه أبدًا).

لقد أكد كتاب الله على الوعيد الشديد لأولئك الذين يعتقدون أنهم بأدائهم لصلاتهم ناجون! دون أن تثمر صلاتهم عونا لمحتاج أو فقير أو مظلوم أو مقهور (فويل للمصلين).. إنه لا عبرة لصلاتهم! إن سهوهم عن إدراك مغزاها، ومراءاتهم الخادعة للناس بأداء ركوعها وسجودها، لم يكن ليثمر إلا منعا للإعانة أيا كانت عن غيرهم.. إنه النتيجة الحتمية لخلل الفعل ولو زُعم أنه لله.. فأنى لهم أن تُقبل منهم؟! بل الويل لهم.

إن التقرب الحقيقي إلى الله يحصل عندما تتحقق تلك الثنائية في أعمالنا، توجه إلى الله يثبته إسعاد لإنسان أو انتصار لمظلوم أو مغفرة لمخطئ أو تقدم في مجتمع أو انتصار لقضية عادلة أو إحقاق لحق أو دفع لباطل. وإنه والأمر كذلك فإن الميزان الحقيقي للأعمال يكون فعالاً عندما تنتج أعمالنا وأفعالنا منافع لمجتمع أكثر من الضرر، وخيرا أكثر من الشر، وبناء أكثر من الهدم، وتقدما أكثرمن التقهقر، وأمنا أكثر من الخوف، وحياة أكثر من الموت، وإلا فإنها تصبح أعمالا هوجاء بلا مبرر وبحاجة ماسة إلى إعادة نظر في فكرتها أو أساسها أو تطبيقها، وعلى ذلك فإن الأعمال المختلفة وإن حملت تسميات براقة وبعدا وطنيا أو أخلاقيا أو حتى دينيا (مقاومة، انتفاضة، جهاد) وكذلك عباداتنا وحتى أذكارنا واستغفارنا القولي بحاجة ماسة إلى إعادة تقييم على مستوى النفعية والخيرية المرجوة منها مقارنة بنتائجها الحالية حتى نعود ونهتدي إلى الطريق القويم.

إن نتائج أفعالنا المختلفة في البعد الكوني بكل مكوناته الإنسانية والإعمارية والحيوانية والزراعية هي الدليل على حسن أفعالنا من عدمه، وحيثما كانت النتيجة نافعة أكثر، كان ذلك دليلا على قبولها ومآل صاحبها (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين).
لقد أدرك الفيلسوف اليوناني ذلك المعنى حينما حاور شجرة اللوز. قال "حدّثيني عن الله"، فلم تنبس ببنت شفه بل اكتفت بأن "أزهرت".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد