أؤمن بأن الصدفة لا تحدث أبداً صدفة، أؤمن بالرسالات والعلامات، أؤمن بأن كل من ألتقيهم يحملون لي رسالة، دورهم أن يسلموها ودوري أن أفكّ طلاسمها، وأترجمها، وأنفذ المطلوب مني!
التحقت بأكاديمية السادات لأتخصص في مجال السياحة، يختار الطالب التخصص في العام الثالث، بالصدفة وزعت ورقة اختيار التخصص في محاضرة أستاذ الحاسبات دكتور أحمد القريعي، أجلس في مقعدي المفضل بالصف الأول في المقعد المقابل للأستاذ تماماً، ناولني دكتور القريعي الورقة وهو يبتسم ويقول: حاسبات طبعاً، أجبت: لا، سياحة وفنادق.
ظهرت على وجهه الدهشة وراجعني في اختياري، مدح في مهارتي في التحليل وأثنى عليها فقد درّس لي عامين، وأنا في اندهاش فلم أكن أظن أنه يرى فيّ هذا التميز رغم حصولي على درجات مرتفعة، فلم يكن من الأستاذة القريبين من الطلبة أوممن اعتادوا التباسط معهم، ظل دقيقتين أو ثلاث يحدثني عن تناسب تفكيري المنطقي وعن موهبتي في التحليل مع هذا التخصص، وأنه هراء أن أهدر مهارة هي عندي موهبة متميزة فيها بدراسة تخصص آخر، وتراجعت فعلاً وتخصصت حاسبات بسبب هذه الكلمات التي ما كانت لولا صدفة توزيع ورقة التخصص في تلك المحاضرة بالذات.
تعلمت من أستاذي أثر أن تهتم وأن تلاحظ وأن توجه وأن تنصح وكيف يمكن أن يغير ذلك حياة إنسان بالكامل.
في أول عمل التحقت به تصادف أن عملت مع زميل على وشك أن يترك المكان ليعمل في دولة الكويت، كان خريج الأكاديمية، وكان نجم الإدارة من حيث الكفاءة ومحل غيرة من الزملاء تظهر في التعليقات والقفشات التي تشي بنوع من الارتياح لرحيله والتخلص منه كمنافس قوي، لم تكن تنقصني الخبرة التقنية لتفوقي الدراسى فتحمس لي زميلي وعكف بأمانة شديدة وإخلاص على أن ينقل لي كل خبرة ومعلومة عنده تخصّ العمل، كان يمازح زملاؤنا قائلاً: "فاكرين حترتاحوا لما أمشي؟ سهى هتاخد مكاني.. ولو رجعت أنا نفسي مش هاقدر أحصلها"..
وحدث ما توقعه فعلاً.. صعدت بسرعة الصاروخ، لم تكن رحلة الصعود سهلة، كانت قاتلة ومرهقة بين ضغوط العمل والمنافسة، لكنها كانت سريعة بالمقاييس المصرية. شخص لا أعرفه وزاملته ثلاثة شهور أو ربما أربعة، ولم ألتقيه بعدها أبداً، كان سبباً في تمهيد طريق نجاحي العملي لثماني سنوات بعدها!
كانت رسالته التي لازمتني بعده العمر كله حتى اليوم، أن أدرك أثر أن أعلّم غيري ما أعرفه بإخلاص، أن أساعد، ألا أخاف على مكاني، سمعت الرسالة وفهمتها وطبقتها، وتعلمت كثيراً جداً بالمقابل، اكتشفت أن هناك أشياء تظل خافية عليك لا تخطر ببالك حتى تقف لتشرحها، ويسألك أحدهم سؤالاً فيفتح لك باب معرفة لم تفكر في طرقه أصلاً، فيزداد علمك وخبرتك.
في موضوع شخصي مررت بضغوط شديدة وحالة نفسية سيئة لم أستطع التغلب عليها، وحاول الأهل والأصدقاء المساعدة بلا جدوى، كنت مرهقة جداً ومستهلكة في مشاعر الألم والخيبة، وبالصدفة خرجت مع زميلة للتسوق ولم نكن أصدقاء، كانت قد فقدت والدها منذ شهور قليلة، وتطرق الحوار بيننا إلى الألم والأحزان، فقالت لي هذه الزميلة عبارة لم أنسها أبداً انتشلتني من جُب اليأس والألم الذي كنت فيه، كأنها ألقت إليّ طوق نجاة، لم يكن الكلام جديداً لكن لسبب ما مسّ فيّ مكان الشفاء، قالت صديقتي: "لن تشفي حتى تقرري أنت أن تشفي.. كل الكلام والنصائح لن تثمر.. أنت وحدك بيدك الشفاء وسيحدث عندما تقررين ذلك".
بعد هذا الحوار بفترة قصيرة كنت أشرد كثيراً في عبارة زميلتي التي أحدثت المعجزة وتعافيت، أدركت من كلام زميلتي التي كنت أعرف أن مصابها يفوق مصابي.. أني اتخذت من الألم هوية.. أني قابعة في قاع البئر ولا أريد الخروج ولا أكفّ عن الشكوى.. قارنت بين ألمي وألمها فوجدت أن خسارتي تعوّض وخسارتها لا تعوّض.. وعرفت أن تخطي ما حدث واستكمال السير هو فعلاً قراري وأملكه!
تعلمت أن الألم رسول وعلينا أن نقرأ رسالته ونتمعن فيها ونتعلم منها ثم نصرفه إلى حال سبيله، ولا نتركه يسيطر على حياتنا ويفسدها، ولا نتخذه وسيلة لاستدرار عطف من حولنا، وأنه لا يمنحنا استحقاقاً من أي نوع، وألا نتاجر به ولا نتذرع به للهروب من مواجهة الدنيا وتحدياتها.
هل تؤمن بالرسائل والعلامات؟
هل حدث أن مرّ بك موقف عارض أو تقاطع طريقك في الحياة مع آخر ليستودعك رسالة تخصّك؟ شاركني في التعليقات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.