في شقة بسيطة بالدور الرابع في بناية بشارع إيواز بك، كانت الأم ترقد في سريرها تعاني آلام الولادة وبجانبها الخالة عيدة، وقد تم استدعاء الداية رئيفة على عجل لتسهم في استقبال المولود الجديد، في الصالون المجاور لمدخل الشقة يجلس الأب يقرأ القرآن بصوت مرتفع، وكأنه يحتمي به من القلق الذي ألمّ به من صراخ زوجته.
وفي صالة الشقة الابنة والابن يلعبان بالكرة التي سقطت في حلة "المُغات"، هذا المشروب المصري الذي يُمنح للسيدة التي تلد لتعويض ما نقص منها، وذلك بعد أن تعمدت الخالة إشعال "بابور الجاز" ووضعه وسط الصالة لعل لهيبه يهزم ولو بعضًا من البرد الشديد السائد في السويس، في هذه الفترة من الزمن القديم.
يصل الطفل، يفرح الجميع، تستقبل الأم في غرفتها ابنها وابنتها، تطلب من الأخيرة ذات العشر سنوات أن تجلس على السرير بجانبها، ثم تضع في حضنها المولود الجديد قائلة أنت أمه الصغيرة، لتتشبث بهذا اللقب طيلة حياتها، ولأنقل عنها وصفها لميلادي في الأول من فبراير/شباط عام ستة وخمسين.
خمسون عامًا بعد هذه الواقعة، أقف بين الزميلات والزملاء في إحدى غرف مكتبي بدبي، يحتفون بي كما جرت العادة في مكتبنا لمن تمر أعياد ميلادهم خلال أيام العمل الأسبوعي. عادةً ما أكون حزينًا ومكتئبًا يوم عيد ميلادي، أتمنى أن يمر اليوم سريعًا، في الحقيقة لا أعلم لماذا.
بعد الاحتفال جلست مع نفسي وحيدًا، غرقت في شريط طويل من الذكريات، وكأني فجأة اكتشفت أن عمري أصبح خمسين عامًا، كنت أقدر أن ما مر من عمري لا يزيد على عشرين عامًا، أين ذهبت إذن الثلاثون الباقية؟ أين انقضت؟ وماذا فعلت؟ كنت أفكر بعمق، بالأحرى كنت أطرح على نفسي سؤالًا جادًا أبحث عن إجابة مقنعة له.
في الحافلة التي تنقل الركاب من بناية المطار في إسطنبول إلى الطائرة، أمسكتُ بأحد أعمدة الحافلة خشية الوقوع كما يفعل كافة الركاب، وقف شاب صغير ودعاني للجلوس مكانه، للحظات لم أفهم سبب فعلته، لكن على قدر امتناني له على قدر غيظي منه، إنه يريد أن يقول إنني عجوز أحقُّ منه بالجلوس.
في جريدة صباحية أقرأ خبرًا أن مسنًا في الخمسين من عمره فعل كذا وكذا، أتذكر نفسي وأنا صغير عندما كنت أقرأ مثل هذه الأخبار أو العبارات أو أسمعها، كانت صورة المسن أو العجوز في ذهني هو ذاك الرجل الذي انحنى ظهره، وتكسرت أسنانه، يسير بمساعدة "العكاز" في حين أنظر إلى نفسي فلا أراني كذلك، تبًا لهذه الصحيفة التي لا تُحسن الوصف!
صديقي اللدود "عمرو عبدالحميد" لم يكن ليمر أسبوع إلا ويذكّرني أنني قد كبرت في السن ولم تعد ثمة فائدة من ورائي، وكأنه كان بلاغًا أسبوعيًا، أو تذكيرًا لازمًا، نضحك ونتبادل النكات عبر الهاتف، ثم يعود لمزحته في المكالمة التالية في إصرار غريب.
في مطار بيروت الدولي، وفي إحدى محلات بيع الحلويات احتد الخلاف بين البائع والمشتري، فانصرف المشتري، فوجدت البائع ينظر لي – ويبدو أنه لم يسمع بما قاله عمرو – ليصيح "الراجل كبر وخرّف"، فوجدتني أرد عليه سريعًا وأنا أنصرف، احرص على ألا تكبر إذن، فنظر لي بدهشة شديدة دون أن ينطق بحرف.
بعد الثورة ومؤمناً بها عدت بمكتبي من دبي إلى القاهرة، هناك أجرت معي زميلتنا "صباح حمامو" حوارًا لجريدة "الأهرام"، سألتني بعد الحوار كيف تقول إنك تشعر بأنك لم تفعل شيئًا بعد يستحق أن تستريح بعده، كيف وقد فعلت ما فعلت؟ سواء صدقتني صباح أم لم تصدق فإن ذلك كان حقيقة شعوري.
الأمر أكبر من ذلك، وهو كالتالي، أنظر ورائي فأستغرب لسنوات عمري وما فعلته بها، وكيف فعلته، وهل لو عندي فرصة أخرى هل أفعل ذات ما فعلت، وهل هو يستحق؟ الحياة معقدة للغاية وصعبة جدًا لكنها هبة من الله، فهل فعلت ما يستحق مقابل هذه الهبة؟
المشكلة الأهم، أنني بيني وبين نفسي لا أريد أن أعترف بسنوات عمري، أقمع نفسي كثيرًا حتى أقنعها بأني في هذا العمر وقد زادت الخمسين عشرًا أخرى، على غفلة أضبط نفسي أحيانًا أفكر بطريقة شاب في العشرين من عمره.
تطربني كلمات أولاد العشرين حين يعملون معي، ويتعبون من السفر أو المشي أو الوقوف طوال اليوم للتصوير والعمل، "يا أستاذ أنت متعبتش"، أخفي إرهاقي وأقاوم، تفضحني ملامح وجهي في الأغلب.
تقرأ من الدين ما تقرأ، وتبقى بعض العبارات منقوشة في ذهنك، "إن قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسها"، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، إنها قيمة العمل حتى النفس الأخير، لا أخشى الموت خشيتي من المرض الذي قد يقعدني فلا أغرس الفسيلة.
علي عزت بيغوفيتش خرج من السجن وقد زاد عمره على الستين ليخوض معركة شعبه، غير مكترث بسنوات النضال والسجن وما تركته من بصمات على جسده وصحته، يعايش الواقع وكأنه في عنفوان شبابه، تختلف الناس حوله لكنهم يجمعون على أن لولاه ما ظلت البوسنة دولة واحدة.
أما ونستون تشرشل فكلنا نعرف قصته، وقد رسب في اختبارات الفصل السادس الابتدائي، وانهزم في كل الانتخابات التي ترشح فيها، إلى أن أصبح رئيساً للوزراء وعمره اثنين وستين عاماً، وليكون صاحب معجزة التصدي للجيش الألماني بقيادة أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية تحت شعار "لن نستسلم أبداً"، فيما بعد كتب عن تلك الحرب ستة مجلدات كبيرة الحجم حاز عليها نوبل في الآداب.
أقرأ في موقع "أراجيك" أن الكولونيل ساندرز صاحب سلسلة مطاعم "كنتاكي" الشهيرة عمل في مزرعة بدولارين في اليوم، وخدم بالجيش، ثم كان عاملًا لتلقيم الفحم على قطار بخاري، فسائق مركب نهرية، فبائع لبوالص التأمين، ثم درس القانون عن بُعد، ومارس المحاماة لبعض الوقت، ثم باع إطارات السيارات وتولى إدارة محطات الوقود، وقام ببيع الدجاج الذي يطهوه على المارة والعمال في الشوارع.
وفي سن الخامسة والستين تقاعد من وظيفته، لكنه لم يرض بمعاشه الحكومي الشهري البالغ 100 دولار، وانطلق ليؤسس سلسلة مطاعم دجاج "كنتاكي" الشهير
وبعيدا عن السياسة والتجارة، فإن جوزيه سارماغو هو روائي قدير، وهو أول كاتب باللغة البرتغالية يفوز بنوبل في الآداب، أبواه أميان لا يعرفان القراءة ولا الكتابة، بلغ به الفقر أنه كان يمشي حافيًا في قريته حتى بلغ الرابعة عشرة، عمل كحداد وصانع أقفال وميكانيكي، ولم يجلس على مكتب للأعمال الورقية إلا بعد أربعين عاماً من المعاناة.
طرد بعدها من عمله كمحرر صحفي بسبب مواقفة الثورية واليسارية، وهو يقول عن ذلك: "كانت أكثر حادثة حظ سعيد في حياتي"، وبسببها تفرغ للكتابة، ولم ينل الشهرة إلا بعد الستين بروايته "بالتزار وبليموندا"، وحاز عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين على جائزة نوبل في الآداب عن روايته "العمى"، ليقول عن نفسه: "إذا كنت قد توفيت قبل الستين، لم يكن ليعرفني أحد"!
وبعيدًا عن مشاهير الناس، كم من عجوز كنت ألتقيه خلال سفري فيخجلني من نفسي، وهو أو هي مصمم على المضي في حياته حتى لحظته الأخيرة، عملًا واستمتاعًا، أو نضالًا من أجل قيم عليا، فيما شبابنا مازالوا يترددون في المغامرة أو مغادرة الدار التي وُلدوا فيها، ورجالنا ما إن يبلغوا الستين وربما الخمسين إلا والمقاهي مقرّهم ومستقرهم.
الموت يعرف طريقي، أنا لا أعرف طريقه، ذهبت إليه مرات عدة لكنه أعرض عني؛ لأن الأجل لم يحن، فلماذا أضيع وقتي في انتظاره؟ حريّ أن أكون في أفضل حال عندما يصل.
على كل حال، في عام اثنين وسبعين أعلنت منظمة الصحة العالمية أن سن الخامسة والستين هو بداية سن الشيخوخة، حتى هذا التصريح لا أعترف به، وإنما أعترف بما قاله هنري فورد، مؤسس شركة فورد الشهيرة، حين قال إن أي شخص يتوقف عن التعلم هو عجوز سواء في العشرين أو الثمانين.
إذن هل مازلت تتعلم؟ هل مازلت تجيد البداية من الصفر؟ هل مازال لديك مشاريع بحجم الكون؟ هل مازالت أحلامك حية؟ هل مازلت تتغزل في القمر؟ هل مازلت مجنونا؟ هل مازلت تتحرى الصدق؟ هل مازلت تعادي الخونة والفاسدين؟ هل مازلت تجيد العشق والثورة؟ هل مازال الولد الشقي بداخلك شقيًا؟ ردودك تحدد الإجابة: كم سيكون عمرك عندما تبلغ الستين؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.