نوستالجيا لميدان التحرير

تعاودني الذكريات وتذكرني بوقت كان الحصول على كوب من الشاي في ميدان التحرير صعبا، يا ليوم اقتسمت فيه شاندوتش فول مع أحد المصابين ظل في جيبي من الصباح حتى العصر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/25 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/25 الساعة 02:30 بتوقيت غرينتش

(1)

ما بين نوم ويقظة.. أصوات كثيرة متداخلة تغزو رأسي ومحاولة فاشلة للاستيقاظ أو الغفو، عقلي يريد الصحو وجسمي لا يطاوعني، رِجلاي متيبستان، ربما البرد هو السبب رغم أني تحت كومة بطاطين، إحساس بالبرد يشابه ما كنت فيه عند النوم في حديقة جامع عمر مكرم في يناير الثورة.. كنت أغالب النوم ثم أستلقي على النجيلة محاولاً الاختباء داخل هدومي ممسكا بأطرافها إلا أن البرد كان يدخل إلى جسمي من كل مكان، أوقات كنت أهرب من البرد إلى داخل جامع عمر مكرم وحينها أشعر وكأني كنت في مياه ثم خرجت إلى اليابسة، برغم أن المكوث ليلا في المسجد كان لفترات قصيرة (ساعتين) بالتناوب حتى يحظى البقية بمكان داخل المسجد، لأيام كنا نفترش الأرض وسط الهواء وتغطينا السماء لكننا كنا متلحفين بالثورة، مرت خمس سنوات وما زالت الذكرى تغزو رأسي، ذكريات تلك الأيام تستعصي على النسيان.

(2)

ليس البرد فقط ما يؤرق نومي ولكن أصوات متداخلة في رأسي هل هو رنين المنبه المتتالي أم هو صوت موزع الأنابيب؟ هذا الصوت أتذكره جيداً كما في ليل الأربعاء الدامي وأثناء تصدينا لمحاولات اقتحام الميدان، بجوار المتحف المصري يفأجئنا سقوط الشباب صرعى، كان القناصة يختارون من بيننا ولا أنسى منظر أربعة يحملون خامسا ولما سألتهم "ماله؟" رد أحدهم "رصاصة في رأسه"، تسمَّرت لثوان بعدها لم أتمالك نفسي وشرعت في الطرق على السور الحديدي بجوار المتحف مثل كثيرين، كان صوتًا يرهب المهاجمين بقدر ما يحمسنا وكأن لسان حالنا يقول "نحن هنا ولا نخاف رصاصكم"، لا يعلم القتلة والمأجورون (من القادة وإلى ضاغطي الزناد) أن رؤية الدم في هذه المواقف لا تُخيف بل تزيد المرء إقدامًا، وتتخلص النفس من الخوف البشري المعتاد، ويُحدِّث الفرد نفسه بأن المجموع هو الأهم ومثله مثل مَن سقط صريعاً وربما يكون هو التالي..

(3)

أُغالب نفسي وأهمس لها سرًّا بأنها أيام ولَّت لعلَ الذكريات تذهب عن رأسي، أحاول إقناع نفسي بالقيام وأمنيها بكوب شاي دافئ كالمعتاد، تعاودني الذكريات وتذكرني بوقت كان الحصول على كوب من الشاي في ميدان التحرير صعبا، يا ليوم اقتسمت فيه شاندوتش فول مع أحد المصابين ظل في جيبي من الصباح حتى العصر، ذات مرة مددت يدي لألتقط بسكوتة من شخص كان يوزع علبة منه لكنها نفدت قبل أن تصل إليَّ، فإذا بمن أمامي يلتفت وبابتسامة يعطيني جزءًا من واحدة، الكرم والتسامي كانوا سمة سائدة، وإشعاعات إنسانية حقة تشع من الكل.

(4)

حسناً لأتأخر في الاستيقاظ حتى لا أنام وسط النهار علَّني أقابل بعض الأصدقاء، مَن يا تُرى أقابل وقد ضاقت دائرة أصدقائي عن السابق كثيراً؟ الآن دائرة صغيرة أستطيع عدَّ مَن بداخلها، فلأيام صرت لا أقابل صديقًا، وربما تزيد الفترة لشهور لمقابلة بعضهم، عادت الدائرة لعادتها صغيرة والتي كانت وسعتها الثورة التي أكسبتني كثيرا من الصداقات والمعارف، مع أول مليونية وكنت طفت أرجاء الميدان بالكامل، أحسست وقتها أني أعرف كل من تقع عليه عيني (على عكس عادتي بالتعرف البطيء على الأغراب)، صارت الوجوه مألوفة، الجميع أصبحوا معارف ومن تتبادل معه الحديث يصير صديقا، ما هذا الدفء المفاجئ وسط الناس، زالت الستارة الرخامية ما بين مختلفي المرجعيات والأيدولوجيات وزاد التقارب وصفا النقاش وتوسعت الرهانات على قدراتنا.

(5)

ذكريات تحيلها الكتابة حاضرا مرة أخرى فأعيشها مجدداً قبل الواقع أحيانا، ذكريات يحلو الرجوع إليها ونتمنى نسيانها في نفس الوقت، آهٍ لرأس مثقل بمثلها..
ولماذا أصحو؟ سأستمر في النوم عساني أنسى أو تصفو رأسي.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد