في لحظة حاسمة من عام 2011 نجح الثوار في ميادين مصر في كسب قلوب قطاعات مما سمي لاحقا بحزب الكنبة، فانقلبت الآية وتغيرت موازين القوى لسنوات، وبعد عامين من هذا المشهد نجح الجيش المصري وقطاعات من الدولة العميقة ومعارضو الإخوان من القوى الثورية المدنية في استدعاء حزب الكنبة ليخرج مقدّماً مبرّراً للجيش للإطاحة بالرئيس محمد مرسي، ومنذ ذلك الحين يحاول المتظاهرون دون جدوى إخراج ذلك المارد من القمقم مجددا.. فهل يمكنهم ذلك؟
هنا قصة "حزب الكنبة المصري" ومحاولة للإجابة على هذه الأسئلة..
على مدى سنوات طويلة قبل عام 2011 كانت غالبية الشعب المصري تمارس صمتا عميقا حيال الأحوال السياسية والاجتماعية، وكان صمتهم في ذلك الوقت أمرا متقبلا، إلا أنهم كسروا ذلك الصمت بدعمهم الواسع للثورة ضد نظام مبارك في أيامها الأخيرة، ثم ما لبث هؤلاء للعودة للصمت والمتابعة الصامتة مجددا، ما جعل مصطلحا جديدا يظهر لوصف هؤلاء هو"حزب الكنبة". وسموا بهذا الاسم لانهم لا يبرحون كنبات بيوتهم، ولا يتفاعلون مع الوضع السياسي بشكل مباشر. يتكون هذا الحزب من أعمار وطبقات واتجاهات مختلفة، يجمع بينها عدم التفاعل مع الوضع العام وتفضيل الاستقرار.
طرأت تغيرات على حزب الكنبة الحالي عن "حزب كنبة" مبارك، إذ أن الثورة ساهمت في ترك البعض مقاعدهم القديمة والاصطفاف خلف فصيل معين. وبما أن "حزب الكنبة" ليس كتلة واحدة ولا متجانساً، فمن الصعب قياس توجهاته إلا بالتصويت في الانتخابات والانحياز لطرف معين. لذا تظهر قوته عندما يشارك في استحقاق ما، بما أنه صامت معظم الوقت.
اعتمدت المسيرات والمظاهرات بداية من 25 يناير على الدخول إلى الحارات والمناطق الشعبية مستهدفة تفاعل أهلها مع المطالب التي كانت تمسهم في ذلك الوقت، وبالفعل خرج بعضهم ذلك اليوم بالإضافة لجمعة الغضب. في حين اكتفى البقية بالمتابعة الحذرة لما يحدث في ميدان التحرير.
وفي استفتاء مارس 2011 صوتت نسبة تتجاوز ال77 % بنعم على الدستور بعد أن استخدم الإخوان المسلمون شعار الاستقرار،وكانت هذه اللحظة كاشفة لقوة المنتمين لـ"الكنبة".
في الأحداث التالية في مسرح البالون والمظاهرات القبطية في ماسبيرو وما سمي إعلامياً بجمعة "قندهار" التي نظمها التيار الإسلامي بدأت معالم حزب الكنبة في الوضوح أكثر، قسم منهم أكد على توجهه الدولتي (المؤيد لمؤسسات الدولة)، وقسم يتمنى للثورة النجاح، وقسم يدعم الإخوان المسلمين باعتبارهم بديلاً متماسكاً قادراً على تحقيق إنجاز اقتصادي واجتماعي، بالإضافة إلى عدم ظهور خلافات بينهم وبين المجلس العسكري في ذلك الوقت. كما كانوا يدعمون الاستقرار، مع سعي نحو بعض التغيير.
في سياق الاستقطاب، ظهر الفرق بين توجهات الأطياف المختلفة داخل حزب الكنبة في انتخابات الرئاسة، حيث صوتت الكتلة الداعمة للدولة لصالح شفيق، والكتلة الداعمة للإسلاميين اختارت الدكتور محمد مرسي، وبعد فوز الأخير بالرئاسة، اصطف حزب الكنبة من جديد خلف جماعة الإخوان المسلمين دعما للاستقرار، حتى الاستفتاء على الدستور عام 2013، وبعدها بدأ المشهد في التغيير من جديد.
السبب الذي كانت "الكنبة" تدعم الإخوان من أجله، هو ما دفعها للبحث عن بديل حين بدا الإخوان غارقين في المشاكل وغير قادرين على التأثير، بالإضافة إلى بدء موجة من العنف المجتمعي متمثلة في أحداث الاتحادية والمقطم وحرق مقرات حزب الحرية والعدالة الممثل لجماعة الإخوان المسلمين على يد تنظيم "البلاك بلوك". وفي المقابل كان الإعلام يلعب على تلك النقطة حتى بدأ حزب الكنبة في الثورة ضد الإخوان.
مؤتمر دعم سوريا في إستاد القاهرة الذي أعطى صورة صادمة عن الإسلاميين، وتكرار قطع الكهرباء، وغلاء الأسعار ، كانت من المواقف الحاسمة في إعادة توجيه بوصلة حزب الكنبة، وراحت القنوات تبث تصريحات قديمة يعد فيها الرئيس محمد مرسي بالاستقالة إذا ثار ضده الناس، طالبين منه تطبيق ذلك التعهد.
بعد الاستفتاء على دستور 2012 حدث استقطاب بين القوى الثورية -المعروفة بالمدنية- والكتلة الداعمة لهم من جهة، وبين جماعة الإخوان والداعمين لهم من الإسلاميين من جهة ثانية، واستمر حتى تحول إلى استقطاب بين الإخوان والمجتمع، انحاز فيه "الكنبة" أخيراً ناحية الدولة التي تحالف معها أيضا الثوار المدنيون.
لكن هل يعني هذا أن حزب الكنبة يمكن أن يتحول في لحظة ما إلى ثوار على الأرض؟
انحيازات حزب الكنبة في السنوات السابقة تشير إلى أنه يرجح كفة الطرف الذي ينحاز إليه، لكنه لا يكون ثائراً، فيشارك بعد دعوته من قبل أحد الأطراف، وبعدما يشعر أن نزوله مُؤَمَّن ولن يصاب بمكروه، كما حدث في 30 يونيو 2013، فنزل بعد الزخم الإعلامي الكبير ضد جماعة الإخوان، وبمبادرة من حركة تمرد التي دعمتها حركات سياسية وثورية، بالإضافة لاطمئنانه بأن نزوله مدعوم عن طريق الشرطة التى ستحميه وتشارك معه. لكن هذه المشاركة ما لبثت أن خفتت بعد يومين، حين عزل الرئيس محمد مرسي، وكان نزوله فيما بعد عبر الاستدعاء، مثل النزول للتفويض عندما طلب منه الفريق أول السيسي ذلك (الرئيس السيسي بعد ذلك).
سرعان ما يعود المنتمون لحزب الكنبة إلى بيوتهم بعد مشاركة كهذه، رغم أن الخطر الذي استشعروه لم يزل إلا جزئياً، ولا يعمل على بناء حائط صدٍّ ضد أي أخطار أخرى، بمعنى أن نزولهم لا يكون له أهداف استراتيجية.
هل يمكن تكرار 30 يونيو؟
وهنا يطرح السؤال نفسه؛ هل كان نموذج 30 يونيو مثالاً على حشد حزب الكنبة؟ وما أبرز ما يمكن أن يتعلمه الثوار من تجربة 30 يونيو لحشد ذلك الجمهور؟
"30 يونيو" كانت جزءاً من سياق سياسي مازال الشارع فيه نابضا وقادرا على الحركة، ومازال للتظاهر شرعية وقبول لدى الناس. وفي هذه اللحظة لعبت مجموعة من الأداوت دورا كبيرا في تهيئة وحشد الجماهير في 30 يونيو، وفي مقدمتها الإعلام الذي قام بتسليط الضوء على الخطر الذي تواجهه الدولة المصرية وسينعكس على حياتهم، مثل فكرة أن البلد مخترق من جهات خارجية. وعندما تم حشدهم استخدمت عبارات من قبيل الأمن القومي والخطر الخارجي والانهيار الاقتصادي، وأن مسؤوليات الدولة أكبر من حكامها الحاليين. ورغم ذلك شاركت مكونات تقليدية جدا ممن لا يؤمنون بالثورة أصلا، مثل الموظفين وبعض الطرق الصوفية والفلاحين. أغلبية من نزلوا في 30 يونيو هم مؤيدو الدولة، فهي من حشدتهم وهم جمهورها ، لهم نفس مفرداتها ومنطقها حول الاستقرار، ورفض التغيير والذي سيضر بمصالحهم المستقرة.
ليس هناك الكثير من الدروس ليستفدها الثوار من هذا المشهد. تقول نوران أحمد الباحثة السياسية.
وتضيف لـ"هافنغتون بوست عربي": مشهد 30 يونيو وما ارتبط به من انهيار المسار السياسي وقتها كان يبدو حتميا. وبالتالي، تأثير الثوار عليه كان محدودا لأنهم لم يكونوا الفاعلين الأساسيين في تشكيل هذا المشهد. ما يمكن الاستفادة منه هو معرفة خريطة المجتمع بشكل واضح، القوى التي خرجت عن صمتها من هذه القوى التقليدية والتي عبرت عن موقفها بوضوح من الدولة. وفي النهاية فإن الدرس الأهم هو أن دخول تحالف ما يقتضي وضوح الهدف منه، والمقبول، وما سيتم معارضته في إطار هذا التحالف، وهو ما لم يتم من جانب القوى الثورية في 30 يونيو، والتي أبدى شق منها قابلية وخفضا لسقف مطالبه ومعارضته كذلك بعد 30 يونيو، وهو الأمر الذي انتهي بتهميش هذه القوى.
كيف يمكن تحفيز حزب الكنبة؟
مما يدفع حزب الكنبة للنزول أن يشعر بأن مشاركته حاسمة وفارقة، وانها ستغير الوضع، لذلك نزل في 30 يونيو، ثم نزل للتفويض، لكنه عندما شعر ان نتيجة الانتخابات البرلمانية محسومة مسبقا، وأن وجوده لن يؤثر في النتيجة لم يشارك، رغم الحشد الاعلامي الضخم والنداءات المستمرة، بل وتجاهل طلب الرئيس السيسي شخصيا النزول بعد أن كان استجاب له عند التفويض.
ربما يكون من الصعب تحفيز القطاع الأوسع من حزب الكنبة للانضمام للثورة، خاصة في ضوء قناعة هذا الحزب ان الثورة منافية للاستقرار، وتهديد لأوضاعهم المستقرة.
تتوافق نوران مع هذه الفكرة قائلة: 30 يونيو كانت مناسبة كاشفة لقدرة الدولة وأجهزتها على الحشد في الشارع والتي بدت أنها اكبر من قدرة القوى الثورية. صحيح أن هذه القوى ترى في الدولة ممثلا لها، وأنها الطرف الأقدر على حماية الاستقرار والحفاظ على مصالحهم ومكتسباتهم، وهو ما دفعهم لتلبية نداءها في 30 يونيو وتفويضها فيما بعد، إلا أن هذه المشاركة ارتبطت في جزء منها برغبة وتطلع لتحسن الأوضاع المعيشية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك الاستقرار، الذي وعدت الدولة بتحقيقه في حال مشاركتهم، وهي استحقاقات ستجعل الدولة والرهان عليها من جانب هذه الفئات محل تساؤل في حال عدم الوفاء بها مستقبلا.