على الثلج أطبع خطواتي..
لا شيء يفلح في تدفئتي رغم طبقات الملابس والمعطف الذي أرتديه!
القفازات، واللفحة الملتفة حول عنقي ونصف وجهي، جميعها غير كافية!
صدمني برد السويد بقوة، إنها باردة جدا هذه البلاد. أكاد أبدو كالبالون من كثرة ما أرتدي، ولا دفء حقيقي في الطريق!
لم أعرف الشتاء قاسيا هكذا!
قلت له بعد أن اختبأت داخل معطفه:
هذا البلاد لا تصلح لحياة البشر، ما الذي جاء بِنَا إلى هنا؟!
كيف يتكيف البشر مع عشر درجات تحت الصفر أو أقل، لأشهر طويلة!
لاشيء يفلح في كسر برودة الجليد وزرع قليل من الدفء، سوى بسمة عابرة، أو معاملة إنسانية لائقة، شيء لا يشبه أبداً ما عشناه في عالمنا الثالث!
فقد هاجرنا جميعا هاربين من لاإنسانية الحياة!
هنا للمرة الأولى يمكن لك أن تحس بأنك فعلا إنسان!
إن كل ما كافح جميعنا لتحصيله في حياته من ضروريات، هو هنا حق مكفول للبشر، كل البشر بلا استثناء!
وعليه، فلا تشغل بالك بما هو ضروري، الضروري سيأتيك، وعليك بعدها أن تتفرغ لتطور ذاتك ومجتمعك!
كلما دخلت إلى مكتب من المكاتب الحكومية، تذكرت مكاتبنا في سوريا، وكيف كانت القذارة تلتهمها من كل ناحية، والموظفون غير عابئين بمستوى القذارة الذي يعيشون فيه لساعات طويلة كل يوم، بل حتى المشافي والعيادات، لم تكن أفضل حالا!
والموظفون الذين غالبا ما يكونون غير موجودين على مكاتبهم، والفوضى والتزاحم بين المراجعين، ثم إذا وجد الموظف العظيم الذي يريد إشعارك بكونه رئيس جمهورية، فإنه يأتي عبوسا قمطريرا، ويتهرب ويتطلب، ويعدك في الغد وما بعد غد، وكثيرا ما كان يدخل الفساد والرشوة لقضاء المصالح، وخصوصا إن كانت ذات قيمة! ولا يحصل على ورقته بعد طول بهدلة وانتظار إلا طويلو الأعمار!
نعم، أعرف شبانا ليسو قليلين، قرروا الهجرة من سورية قبل الثورة حتى، بسبب المعاملة المهينة واللاإنسانية التي تلقوها في دوائر الدولة والمشافي، كل الدوائر والمشافي إلا ما ندر!
كل شيء هنا يمشي بعكس تلك الصورة اللاإنسانية، فالنظافة والعناية التؤدة والاهتمام بأدق التفاصيل، والمكاتب الواسعة المجهزة بأقصى درجات الراحة، والموظفون المستعدون لمساعدتك، ولو قطعوا فنجان قهوتهم، ولو راسلوك بعد انتهاء دوامهم.
ماذا تريد؟ بماذا يمكن أن أساعدك؟ لا تتردد في الاتصال بِنَا وسنكلمك ونعالجك ونعلمك باللغة التي تفهمها حتى تستطيع أن تتكلم لغتنا!
الإنسانية المفقودة هناك، والموجودة هنا، لمن أفلح بالوصول حيّا إلى هنا، ولا يهم لو كان كل ما مر به حتى يصل أمرا غير إنساني، فهو كما يعتقدون أمر ليس لهم سيطرة عليه!
هذا فقط، ما يمكن أن يخفف من قسوة مناخ هذه البلاد، ويجعلها برغم بردها الشديد صالحة للحياة!
بلادنا التي استحالت فيها الحياة، ولم نعامل فيها بإنسانية حقيقية ولا يوما واحدا، لا في مدرسة ولا في مستشفى ولا في أي مكان!
كل شيء كان مرتبطا بمقدار المصلحة أو المنفعة التي سيتم الحصول عليه من قبل مقدم الخدمة!
ادفع أحترمك، ادفع أحترم ابنك في المدرسة، ادفع أعالجك! بمقدار ما لديك من مال تحصل على إنسانية مزيفة، أما الفقراء ومتوسطو الحال، فلا مال ولا احترام ولا اهتمام ولا صحة ولا تعليم يليق بحيوان لا إنسان!
حيوان! للحيوان هنا حقوق تفوق ما عاشه بشر بلادنا كلهم مجتمعين!
مثلا إذا فكرت بتبني قطة!
يجب عليك أن تقدم شرحا تفصيليا لوضعك المادي ومنزلك وعدد الأفراد وطبيعة الحياة، هل أنت قادر على إعالتها والعناية بها وتمريضها إن مرضت!
لماذا اخترت أن تربي قطة؟ وأي نوع من القطط تريد؟ ولماذا هذا النوع بالذات؟
بعد أن تقوم بتقديم المعلومات التفصيلية، سيأخذون وقتا للتفكير بصلاحيتك لتبني القطة من عدمه، ثم بعد استخارة واستشارة سيأتيك القرار!
حسبنا الله ونعم الوكيل، والله إن أغلب أهالي الفتيات عندما زوجوهن لم يمنحوهن الاهتمام الذي تناله القطة صاحبة الصون والعفاف في هذه البلاد!
المقارنة مؤلمة موجوعة، والوجع منتشر على خريطة العالم كله، وهذه البلاد قد لمت موجوعين من كل الأرض!
في صف دراسي واحد مدرسان، مدرس من العراق ومدرسة من إيران! أخرجهما الحرب وظلم الإنسان، وبرغم الحرب الطويلة والمدمرة التي كانت بين بلديهما، فقد جمعتهما الرغبة في حياة كريمة في أمن وسلم، وجمعهما عمل أساسه رعاية وتعليم الإنسان.
كم تجمع هذه البلاد من مجاريح الأرض!
إنهم بشر لم يمنعهم البرد والبعد من أن يبحثوا عن أمن وعدل وسلام، فوجدوه فيها، جاءوا وحملوا معهم قصصهم وجراحهم وندبات العذابات التي خاضوها على أرواحهم وأجسادهم!
على الوجوه أخاديد حفرها الألم، وفي العيون قهر الرجال، وفي ملامح النسوة عزة وكرامة وتصميم على الحياة برغم المرارة والشوق.
وهناك في موقف الباص فتاة سورية، بدأتْ تدريبها قبل أن تبدأ دورة اللغة، وقبل حتى أن تحصل على الإقامة، وتعمل بشكل تطوعي لتكسب خبرة تمنحها فرصة المباشرة بالعمل الفعلي في أسرع وقت.
وهناك في الزاوية، رجل سوري متوسط العمر، شارك أخا له وافتتح مطعما للشاورما الشامية الأصلية! شيء يرحل بك فورا إلى قلب حي الميدان الدمشقي!
وفي المشفى طبيب سوري جديد سمعت به البلدة، وكتبت عنه المجلة الطبية، يعالج بين من يعالج ضحايا التعذيب والتنكيل من سوريين وعراقيين وغيرهم من أمم الأرض المعذبة التي جمعتها هذه الأرض.
وهناك على ضفة النهر، سيدة متوجة بالحجاب، وثلاثة أطفال يركضون أمامها.. يجرون ممتلئين بالفرح برغم شدة الصقيع. إنه الأمان والرعاية أخيراً!
إنهم يجرون أمامها إلى المسجد لتعلم القرآن، فهناك يحفظون بوصلة الحياة، ويواصلون تحديد المسار، حتى لا يجرفهم نهر الحياة المتدفق إلى حيث لا يريدون.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.