يحكى أن: الرحلة.. من أول مرة!

تذكرت ما جرى بيني وبين والدي يومُا، سألته، لماذا يعد الله المؤمنين بالغيب خيرُا؟ أجابني لأنه عالم غير محسوس، أنت تؤمن بما لم تره، وبرسول قال إنه مرسل منه، حينها لم أفهم جيدًا، ومع مرور العمر بدأت أدرك معنى الإيمان بالغيب

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/22 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/22 الساعة 04:05 بتوقيت غرينتش

كنت مندهشًا وخائفًا، ما إن استرحت في جلستي، حتى ربّت أحدهم عليه فانطلق لا يلوي على شيء، حين أتذكر ذلك اليوم الآن، أشعر كما لو أني كنت فارسًا يمتطي حصانه ويمضي بين الناس، الذين ما إن يمر بهم الفارس حتى يتركوا كل شيء في أيديهم ليتمعنوا في هذا الغريب؛ الذي هو في الحقيقة يمتطي حمارُا.

قلت لأبي يرحمه الله، كيف ذلك وأنا لا أعرف الطريق، قال ولكن الحمار يعرفه، لا تلق بالًا، سيمضي بك إلى بيت عمك، قالها ومضى هو مع نخبة من الرجال، ومضيت أنا مع الحمار، وقد أصابني الرعب وعمري آنذاك لم يتجاوز تسع سنوات بعد، فيما الحمار يجري بين بيوت القرية وأزقتها واثقًا من نفسه، ينحرف يمنة ثم يسرة، يصعد ثم يهبط دون أي إرشادات من خرائط جوجل، إلى أن وصلت إلى بيت عمي رحمه الله.

كيف لهذا المخلوق أن يعرف الطريق وحده؟ وكيف فهم أساسًا عندما لامسه أحدهم أن المطلوب أن يحمل هذا الصغير ليقوده إلى هذا البيت تحديدًا؟ لماذا نظلم الحمار عندما نشبه شخصًا محدود الذكاء به؟

لم أنم طيلة الليلة التي سبقت سفرنا، كانت الأسود تزأر، والفيلة كما لو أنها تئن، فيما الحيوانات الأخرى تشاركهم تلك السيمفونية العجيبة، ترى كيف سيقدمون عرضهم الأول ليلة الغد وهم على هذا الحال؟ كنت أتسلل من بيتنا في شارع النهضة لأرى الاستعدادات التي كانت تجري على قدم وساق في ميدان "الساحة" القريب من بيتنا لبناء هذا السيرك المؤقت، كنت شغوفًا جدًا به، حزينًا أني لن أستطيع مشاهدة هذا العرض الذي استعدت له السويس كلها.

في الصباح الباكر بدأت قافلتنا تشق طريقها، والداي وأنا وأخي وأختي، إلى محطة القطار لنصل بعد حوالي ثلاث ساعات إلى القاهرة، ثم نستقل قطارًا آخر إلى المنصورة، ومنها بسيارة أجرة إلى فارسكور، ومنها بحنطور إلى العطوي، حيث ولد والدي عام ألف وتسعمائة وثلاثة عشر، قولوا يرحمه الله.

أنتَ أو أنتِ .. هل تتذكر أو تتذكرين أول رحلة لكَ أو لكِ في حياتك؟ هذه هي كانت أول رحلة لي، ويبدو أنني من حينها وقعت في حب الرحلة من أول مرة، من السويس إلى العطوي، وهناك قضيت أيامًا من أمتع ما عشت في طفولتي، لقد خرجت القرية عن بكرة أبيها لتستقبلنا، تدفق الناس على بيت عمي، والجميع يلاطف الصغير ابن المدينة، كان الإعياء قد وصل بي مداه، لكن تخيلت أن هذه الوفود لن تنقطع إلا بحلول الظلام، فلما حلّ وأشعلت المصابيح حل ضيوف آخرون أرادوا أن يتذوقوا دمًا جديدًا طازجًا ومختلفًا عما تعودوا عليه، وفي الصباح كانت آثار الناموس ماثلة في أنحاء جسدي.

الغيط والساقية والترعة والحمار والحصان والطيور والعمدة وقلوب الناس العامرة بالحب، الذاكرة ليست فقط صورة، الذاكرة أيضا رائحة، رائحة الخبز الرائع لازلت أشمها، النسوة وهن حول الفرن، أريد الآن ولو كسرة من هذا الخبز. كل ما في الريف جميل، إلا الناموس!

بعد عقود طويلة جبت فيها العالم وبعد أن عدت إلى مصر بعد الثورة لأقوم بالتصوير لأول مرة لي في بلدي، دخلت في منطقة بالصعيد في نقاش حاد مع زملائي، كان مطلبي التصوير في قرية، قرية خالصة بعيدة عن العمران، وكلما ذهبنا إلى واحدة وجدت أثرًا من آثار المدينة، ورائحة ليست برائحة القرية، هل كنت أبحث عن صورة مناسبة لبرنامجي الذي كنت أقوم بإعداده حينذاك أم كنت أسترد الذاكرة؟

صديقي سمير أسدى لي نصيحتين، إذا وصلت طائرتك مساء فابقَ في المطار حتى الصباح، وإذا تهتَ في أي طريق فاسأل فتاة ولا تسأل شابا، حرصت أن أعمل بالنصيحة الأخيرة حتى ولو لم أضّيع الطريق!

مطار فرانكفورت أول منفذ لي إلى ثاني أهم رحلة لي في حياتي، إلى أوروبا، مطار ضخم وأنيق، كل ما فيه كما توقعت تماما، سوى محل لمشاهدة بيع الأفلام إياها، كلنا يعرف أوربا لكن لم أفهم الحاجة الملحة لوجوده في المطار بجانب الصيدلية ومحلات الأطعمة.

ماثلة أمام عينيّ اللحظة الأولى لخروج القطار من نفق المطار إلى الفضاء الواسع، السلام عليكم يا ألمانيا، السلام عليكم يا أوروبا، لم تمض أربع وعشرون ساعة حتى كنت أسأل نفسي كيف للمرء أن يموت ولا يغادر مكان مولده؟

قروي ساذج بهرته أضواء المدينة ، هكذا كنت أمزح مع نفسي، في الحقيقة كنت أتوقع أضواء المدينة هذه، لكن ما لفت نظري أمور أخرى، هذا الرجل الأنيق الذي يقف ليشتري اصبعين من الموز، في بلادنا هذا عار، عليك على الأقل في زماننا ذاك أن تشتري عدة كيلوجرامات وإن كنت في غير حاجة لها، وإلا سخر منك الجيران، هذه الابتسامات العالقة على الوجوه، هذا النظام الحازم في كل شيء، هذه الحافلة التي تصل بالضبط في موعدها، السابعة ودقيقتان كما هو مكتوب، يا ربي ليتها تتأخر ولو دقيقة واحدة.

هذا العجوز الذي كان منهمكًا في حديث مع حفيده وهما جالسان في الترام خلفي، بالطبع لم أفهم كلمة، لكنهما كانا يتبادلان الكلام كرجلين راشدين ندين، في بلادنا ستنزل الصفعة مدوية، أو في أحسن الأحوال (بس اسكت شوية يا حبيبي)، هذا الطفل الذي يلعق الآيس كريم مرة، ثم يمد يده إلى كلبه ليفعل مثله مرة، الأهم من ذلك كله أنك هنا ستشعر أنك إنسان، ومهما كان الموقف منك إلا أنك إنسان، على غير ما كنت عليه في بلادك.

مازلت أذكر كل شيء، لحظة وصولي إلى محطة القطار الرئيسية في فراكفورت قادما من مطارها، كوب الشاي الذي رد لي عافيتي بعد ليلة مجهدة، محمد الذي استضافني في حجرته قبل أن تطردنا صاحبة البيت لأننا نستخدم الماء بكثرة في دورة المياه، عصمت الأردني المفتوح قلبه وداره لأي عربي غريب، ليالي العمل في المطاعم، ونهارات توزيع الإعلانات والجرائد، دروس اللغة، ومدرس علم الاجتماع العراقي الذي شرح لنا في جامعة ماينز كيف تضع في حياتك معْلَمًا تعود إليه إذا تهت لتنطلق من جديد، تمامًا كما تفعل إذا وصلت مدينة لأول مرة، فنتخذ معلمًا نعود إليه كلما تاه بك الطريق، ولا يمكن أن أنسى أول يوم في رمضان حين صليت الفجر قبل الثالثة صباحًا لأنتظر المغرب في العاشرة مساء.

ستمضي بعض الشهور الطويلة، لأدرك أن عرب أوربا ومسلميها يتمتعون بالإمكانيات المالية والحريات السياسية التي يتجاهلونها ليسقطوا في مستنقع الخلافات العرقية والجنسية والدينية والمذهبية، وهو الأمر الذي يدفعني للهيام بالسفر إلى مناطق الاتحاد السوفياتي حين كان يتهاوي، وإلى مناطق أوروبا الشرقية، لعل هناك ما يستحق، ومن ثم إلى العالم كله.

لكن الرحلة الأهم كانت عجيبة ومدهشة بحق، انطلقت بصحبة من يعرف الطريق جيدًا، خرجنا من المنطقة التي كنا بها، كل حينٍ كنت أنظر إليها فأجدها تصغر وتصغر، بعد فترة قصيرة وجدت آخرين وقد انطلقوا من مناطق مختلفة وجمعتنا وحدة الهدف، كنت خائفًا جدًا، لكني كنت أتذكر أنني سألتقي أحبة أتوق إليهم.

سألت لما لا أشعر بالبرد، قيل لي أن المعايير هنا تختلف، صمت، سرحت، مر شريط حياتي أمامي سريعًا، فكرت في كل ما فعلت، قلت لنفسي لقد ارتكبت أخطاء فادحة، لكن لم أقصد ضررًا بأحد، ولم أكره أحدًا، وفي عملي لم أكذب ولم أغش، لكنني قلت لمن كان يشاهدني أو يسمعني أو يقرأ لي، قلت لهم جميعا الحقيقة التي رأيتها.

الغريب اللذيذ أنني كنت أستمتع في رحلتي هذه بالحرية التي لم أذقها من قبل، وابتسمت حين قفزت فجأة إلى ذهني كل صور الشهداء الذين مررت بهم أو تحدثت عنهم، وتخيلت ويالجنوني أنهم سيكونون هناك يدافعون عني كما دافعت عنهم.

كنت أرتعد، لكنني تذكرت ما جرى بيني وبين والدي يومُا، سألته، لماذا يعد الله المؤمنين بالغيب خيرُا؟ أجابني لأنه عالم غير محسوس، أنت تؤمن بما لم تره، وبرسول قال إنه مرسل منه، حينها لم أفهم جيدًا، ومع مرور العمر بدأت أدرك معنى الإيمان بالغيب، كبر عالم الغيب عندي حتى كنت أعتقد أنني لو كذبت على الناس فسوف يعرفون، كنت أؤمن أن شيئًا ما في الغيب، في العالم غير المرئي يجعل الناس تصدق هذا وتكذب ذاك، تحب واحدًا وتكره آخر، أشعرني ذلك بالطمأنينة، أني كنت ممن يؤمنون بالغيب.

وفي هذا الطريق الطويل حدثتني نفسي أيضًا، ربما لم أحفظ الكثير من القرآن، ربما لم أكن مثل الصالحين أقوم الليل وأصوم النهار، واقترفت الذنوب، لكني كنت مؤمنا بالله، حتى في أزمان الفتنة والإلحاد بقيت مؤمنًا به، أحب رسوله، أتخيله صلى الله عليه وسلم إنسانًا ورسولًا، هل تعلمون أنني أظن أن الرسول كذلك يحبني؟!

اقتربت من الهدف وكان العدد قد أصبح ضخمًا، بتنا وكأننا على مفترق طريق، من بعيد بدا لنا ضباب شديد، صاح أحدهم مشيرًا إلى جهة ما: "يبدو أن هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت"، سمعت صراخًا وعويلًا ففهمت أن بعضنا نظر إلى الاتجاه المقابل، خفت أن أنظر.

قيل لنا سوف تنتظرون هنا إلى أن توجه إليكم الأسئلة، يا إلهي هكذا أمام الملأ، نسيت حينها أمورًا كثيرة وحاولت أن أتذكر عملًا صالحًا واحدًا قمت به أدافع به عن نفسي، فلم أتذكر غير أنني كنت أحب الفقراء والشهداء، رعبي زاد، فجأة سمعت من يقول لي: "اطمئن لا ظلم اليوم"، أو هكذا تخيلت رحلتي الأخيرة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات: