في مسلسل "الراية البيضاء" الذي كتبه السكندري الشهير أسامة أنور عكاشة، وقف أبطال المسلسل، الذي أخرجه محمد فاضل للتلفزيون المصري عام ١٩٨٨، في مشهد ختامي أمام بلدوزر يحاول هدم "فيلا أبوالغار" الأثرية كنوع من الاحتجاج على هدم التاريخ .
ولكن على أرض الواقع وبعد أكثر من ربع قرن من عرض المسلسل لم تجد فيلا أجيون الأثرية بعروس البحر المتوسط من يقف محتجاً أمام بلدوزر نجح في هدمها.
فيبدو أن مافيا المقاولات في الإسكندرية قررت أن تهدم المباني التاريخية ذات الطراز المعماري المتميز، الذي يمنح المدينة المطلة على البحر شكلاً وطابعاً خاصاً، صحيح أن منظر الإسكندرية القديم الجميل لا يزال يسر الناظرين، لكن يد الإهمال والبلطجة طالت الكثير من القصور فيها، واستبدلتها بأبراج خرسانية تمنع البحر والشمس عن أهل المدينة.
وكانت لجنة الأمانة الفنية للحفاظ على التراث العمراني بالإسكندرية، حذرت في تقرير لها من "أن المحافظة مقبلة على كارثة تاريخية، بعد خروج 43 فيلا وقصراً ومبنى تاريخياً من قائمة التراث بالإسكندرية، ودخولها حيز الاستعدادات للهدم"، وكانت آخر هذه المباني التي هدمت هي فيلا "جوستاف أجيون". التي تم هدم الجزء المتبقى منها قبل يومين.
أول بناء خرساني في مصر
في بدايات القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1922، أسند "جوستاف أجيون" إلى المعمارى الفرنسي "أوجوست بيريه" بناء فيلا له في حي وابور المياه وسط الإسكندرية، الذي بدأ العمران يمتد إليه خلال هذه الفترة.
ويعد أوجوست بيريه (1874 – 1954) أحد أهم وأشهر معماريي العالم، لأنه من أهم رواد استخدام الخرسانة المسلحة في إنشاء المباني، وتقديراً لدوره في تطوير التصميم المعماري، ومبانيه التي تحمل طرازاً معمارياً مميزاً.
أدرجت منظمة "اليونسكو" عدداً من الأبنية التي قام بتصميمها "بيريه" في قائمة التراث العالمي بسبب قيمتها العالية، لتصبح تراثاً للإنسانية جمعاء لا لشعب من الشعوب، التي يتوافد عليها اليوم الآلاف في كل عام، ولكن فيلا أجيون مصنفة كأثر ضمن التراث المعماري الفرنسي فقط وليس على لائحة اليونسكو، كما قالت مصادر بوزارة الآثار المصرية، عقب موجة من الاحتجاجات بالمجتمع السكندري على هدم الفيلا التاريخية.
ولكن الفيلا أثر مصري بامتياز كونها أول مبنى تدخل الخرسانة المسلحة في بنائه بمصر.
نزاع على قيمته التاريخية
تعود أزمة فيلا "أجيون" إلى عام 2004، حيث حصل مُلاكها الجدد على حكم إدراي يلغي قراراً لرئيس الوزراء المصري باعتبارها تراثاً معمارياً يجب ضمّه إلى ما يسمى في الإسكندرية "مجلد التراث". وتدُولت القضية مرة أخرى في أروقة القضاء حتى حصل المالك على حكم نهائي بحقه في الهدم وذلك في عام 2009.
وبالفعل تم رفع الفيلا من سجلات التراث المعماري بالاسكندرية في عام 2013. وبعدها بعام حصل الملاك على تصريح بالهدم مُنهين نزاعاً قضائياً بينه وبين محافظة الإسكندرية التي خاطبت مجلس الوزراء بشأن الفيلا ولم تتلقّ رداً.
وبدأ الملاك في أعمال الهدم بشكل تدريجي في فيلا "أجيون"، ولكنهم توقفوا بعد هدم جزء كبير من الفيلا، وذلك نتيجة تدخل سكان المنطقة وموقف حملة "أنقذوا الإسكندرية"، ما ترتب عليه صدور قرار من محافظ الإسكندرية في ذلك الوقت اللواء طارق المهدي، بوقف عملية الهدم حتى يتم التوصل لحل بين مُلاك العقار ولجنة الحفاظ على الطراز المعماري في المدينة.
ونشرت الصفحة الرسمية لمحافظة الإسكندرية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في الأيام التالية صورة للمحافظ أمام المبنى – يتضح فيها هدم واجهة المبنى بالكامل، قائلة: ' قام اللواء طارق المهدي محافظ الإسكندرية بالمرور على أحد القصور الكائنة بمنطقة وابور المياه وسط الإسكندرية للتأكد من عدم المساس به".
ولكن السكان المجاورين لفيلا أجيون فوجئوا صباح يوم الاثنين الماضي، بالبلدوزرات تهدم ما تبقى منها، وعندما اتصل بعض المهتمين بالتراث الأثري السكندري بالشرطة والحي لم يحرك أحد منهم ساكناً.
يقول محمد أبوالخير، عضو مبادرة "أنقذوا الإسكندرية"، لـ"عربي بوست" إنه مندهش مما حدث، ومازال ينتظر رداً من الجهات الحكومية في الإسكندرية يفسّر ما حدث، رغم وجود قرار إداري من المحافظ السابق بعدم هدم ما تبقى من فيلا أجيون.
وأضاف أن القرار الصادر من وزارة الإسكان بحذف فيلا "أجيون" في عام 2014، بالإضافة إلى مبانٍ أخرى ذات قيمة تراثية وتاريخية من قائمة المباني التراثية بمدينة الإسكندرية يعد كارثة؛ لأن هذه المنشآت والمباني لن تعوَّض، وتمثل جزءاً رئيسياً من شخصية المدينة وذاكرتها.
المقاول يبحث عن الربح
يعتمد أصحاب العقارات التاريخية على ثغرات القانون للحصول على حكم بهدم أي عقار أثري، وأهمها الثغرة الموجودة فى المادة الثانية من القانون رقم ١٤٤ لسنة ٢٠٠٦ والمعروف بـ"قانون تنظيم هدم المباني والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعماري".
وهذا ما اعتمد عليه أحد المُلاك، حيث حصل على حكم من المحكمة الإدارية العليا بأحقيته في هدم فيلا "أجيون"، بالإضافة إلى اعتماده على أن الفيلا ليست أثرية، حيث إن بناءها تم منذ 84 عاماً فقط، وحتى يتم إدراجها في قائمة المباني الأثرية لابد أن يمر على إنشائها 100 عام.
كارثة تاريخية
وفقاً لتقرير صادر من "لجنة الأمانة الفنية للحفاظ على التراث العمراني بالإسكندرية" فإن المحافظة مقبلة على كارثة حضارية إذا لم يتدخل المشرع لتقويم المادة الثانية من قانون حماية المباني والمناطق التراثية رقم 144 لسنة 2006، وذلك بسبب الأحكام الصادرة من قبل محكمة القضاء الإداري في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي وافقت على إخراج 43 فيلا وقصراً بالإسكندرية من مجلد التراث.
التقرير يشير إلى أن الإسكندرية بها 1150 فيلا وقصراً ومبنى أثرياً مدرجة في قائمة التراث العمراني ما بين فيلات وقصور ومصالح حكومية وعمارات لها قيمة تاريخية وطابع عمراني، وأن ما تم هدمه عدد قليل. بل إن مقاولي الهدم يقومون بهدم المباني أحياناً من دون الحصول على تراخيص.
مبان مهددة
وخلال السنوات الخمس الماضية، تم هدم ما يزيد على 30 مبنى تاريخياً بسبب عدم وجود رقابة شديدة من الأحياء في محافظة الإسكندرية، ومنها:
– الفيلا رقم 26 شارع أحمد يحيى – زيزينيا، بحي شرق، وقد تم هدمها بالفعل في 25/2/2014 رغم أنها كانت مسجلة بمجلد الحفاظ على التراث بالإسكندرية، إلا أن مالكها الجديد نجح في الحصول على قرار من وزير الإسكان بحذفها من اللائحة التراثية في عام 2013، بناءً على حكم قضائي.
– قصر عبود "رقم 39 شارع محمود أديب – زيزينيا" الذي كان مسجلاً بمجلد الحفاظ على المباني التراثية بالإسكندرية المعتمد بقرار من رئاسة الوزراء عام 2008 وتم حذفه أيضاً بقرار من وزير الاسكان وتم هدمه منذ سنوات.
وهناك مبانٍ تاريخية بالمدينة مهددة بالهدم استناداً إلى الثغرات القانونية ومنها القنصلية الألمانية السابقة بالإسكندرية وقصر شيكوريل.
حملة "أنقذوا الإسكندرية"
منذ انطلاقها تحاول حملة "أنقذوا الإسكندرية" التصدي لمحاولات طمس التراث المعماري بالإسكندرية، لذلك تطالب بوقف هذا النزيف المتكرر، والتدخل التشريعي الفوري من قبل السلطة الحالية لتعديل نص المادة الثانية من القانون 144 لسنة 2006 لتتلاءم مع نص المادة الثانية من لائحته التنفيذية، لتجعل التميز العمراني سبباً في ذاته للإدراج في مجلد الحفاظ على التراث والمباني الأثرية. كما طالبت المبادرة كافة مؤسسات الدولة والجهات المعنية بالاطلاع والتحرك الفوري بشكل متكامل واستخدام كافة الصلاحيات التي يوفرها القانون لمواجهة ما يتعرض له الوطن بصفة عامة والإسكندرية بصفة خاصة من خسارات متتالية وفادحة لمبانٍ ومنشآت ذات قيمة لا تعوض، بما ينذر بكارثة تواجه التراث العمراني والمعماري بالمدن المصرية.
في مسلسل "الراية البيضاء" وقف أبوالغار – السفير السابق وصاحب الفيلا – ضد محاولات "فضة المعداوي" تاجرة السمك، ليحافظ على التاريخ، أما الآن فبعض أصحاب الفيلات التاريخية فهم الذين يهدمون التاريخ من أجل حفنة جنيهات.