"ياااا الله.. ياااا الله".. هذا ما ينطقه لساني عندما أسترجع ذكريات طيبة من الماضي الجميل، وأتحسر على استحالة إعادتها من جديد، كاستحالة وجود آلة زمن تعود بنا ماضياً أو تنطلق بنا مستقبلاً.
عندما كنا نحزن في آخر أسبوع من العطلة الصيفية لاقتراب أجراس المدرسة على القرع، ولكننا نعوضه بفرحة توجهنا رفقة أبناء العم إلى المكتبة لشراء القرطاسية المدرسية، وتلك الشجارات التي تحصل مع زملائي التلاميذ خلال أول يوم في المدرسة في محاولاتنا المستميتة لحجز المقعد الأول.
عندما أتخاصم مع أخوتي على التلفاز، حيث تتقلب الشاشة بين الفيلم الذي يعرض لأول مرة وبين وصفة كعكة الشوكولاتة التي تعدها منال العالم، ويناقض التلفاز نفسه بين أوامر جهاز التحكم عن بعد الذي في يدي وبين أوامر أختي التي تصدرها مباشرة عبر أزرار الجهاز نفسه.. ليرسو الاتفاق وتوقع معاهدة لاحقاً بعد مفاوضات مضنية بأن مَنْ يملك جهاز التحكم هو صاحب القرار.
عندما يُضخ الأدرينالين في دمائنا طوال الليل إذا ما قررنا الذهاب للبحر في الصباح الباكر، والحماسة المفرطة التي تنسينا حتى أن ندهن أجسامنا بالواقي الشمسي قبل أن نغطس غطستنا الأولى في مياه البحر المتوسط الباردة، وننزعج جداً عندما نحفر حفرة قرب الشط وتظل جدرانها تنهار تباعاً كلما تعمقنا في الحفر.
لو أننا لم نتوقف في تلك اللحظات لبرهة وفكرنا في الأمر بحلوه أو مرّه ما استطعنا استذكارها اليوم، بكلمات سمعناها، بمشاهد أبصرناها، وحتى بروائح شممناها.
عندما كانت خصاماتنا اليومية لا تدوم أكثر من جلسة شاي عائلية، عندما كنا نعبّر عن شبعنا على مائدة الطعام عبر أكل ما تبقى من وجبة الأرز حبة حبة، عندما صليّتُ أول صلاة تراويح في رمضان وكان عمري عشر سنوات وفقدتُ وعيي من طول الركعة والتي كان يؤديها الشيخ الدوكالي العالم بجامع مولاي محمد الشهير بطرابلس.
عندما لم يكن الغرض من زيارة الأحبة في العيد سوى لحصاد "العيدية" والتنافس على من يحصل أكثر من غيره!
عندما أُسأل عن ماذا أريد أن أكون في المستقبل، أجيب: إطفائي.. إطفائي، لأنقذ الناس!
عندما علمني صديقي في المدرسة الابتدائية كيف أغطي انفجاري من الضحك أثناء الحصة عبر الضغط بالفكين على بعض، والتي لا زالت وسيلة ناجحة حتى اليوم.
عندما كنتُ أستمتع بحرق الورق في حديقتنا من خلال العدسة المحدبة التي أملكها، بعد حصة العلوم التي تناولنا في درس العدسات.
وتظل إحدى أبرز المواقف إحراجاً والتي لا زالت في ذاكرتي حتى يومنا هذا، هي تلك التي ذهبتُ فيها لأول مرة للجنازة لأداء واجب العزاء، وإذ بالجملة تنطلق من لساني: بارك الله فيكم، بدل أن أقول معزياً: أعظم الله أجركم.
هي دقائق، بل وبعضها ثوان مرّت وكان لها عميق الأثر في أنفسنا، لم نعر لها اهتماماً آنذاك لتفاهتها لتكون اليوم محوراً بارزاً من محاور نقاشاتنا اليومية بين الأهل والأصحاب.
وثق بالتاريخ والساعة، صور كل لحظة وثانية، استمتع بالرفقة التي معك، سجل أهم أحداث يومك، لكي تبني عالمك الخاص من الذكريات الطيبة التي ستحكيها يوماً ما لأحفادك ليضحكوا معك.
لا تستصغر كأس شاي مع والديك، ولا مكالمة قريب لك لدقائق، ولا صورة فجائية مع الأصدقاء تسترجع بها خبايا وحكايات مضحكة، ولا كلمة طيبة لأستاذك تكون أبقى في ذاكرته منك.
إذا كان لعقولنا مقدرة عجيبة وتفوق المتصور في حفظ البيانات وتخزينها، فلماذا لا نستثمرها في استرجاع كل ما هو طيب وحلو وجميل؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.