"هممم.. عندما أكبر أريدُ أن أكون إنسانا حرًّا". هكذا غمغم الصبي ذو الأعوام الأحد عشر قبل أن يجيب على السؤال الذي يطرح دائما على الأطفال، إلا أن الإجابة كانت مدهشة بقدر ما كانت صادمة. في المجتمعات الطبيعية الحرة، ستكون إجابة الصبي على هذا السؤال هي: عندما أكبر، أريد أن أكون طبيباً، مهندساً أو معلماً، وليس "أن أكون حرًّا".
أكرر، الإجابة الثانية طبيعية في الدول الديمقراطية، حيث الحريةُ شيء من المسلمات، ممنوحة، في حين أن الإجابة الأولى تتفق أكثر في الديكتاتوريات، حيث تظل الحرية فكرةً رائعةً، لكن لا علاقة لها بالواقع. وقد يعتقد البعض -مثل ملايين البشر ممن يعيشون في ظل الديكتاتوريات التي تغسل أدمغتهم- أن الحريةَ رفاهية، وأن الأهم هو السعي لتأمين الطعام والمأوى والوظيفة. إلى هؤلاء المخدوعين، إليكم هذه الحقيقة: لا يُمكن ضمان تلك الحاجات الأساسية دون أن يكون المرء حرًّا في بلدٍ حر.
في الذكرى الخامسة للربيع العربي -الذي انطلقت شرارته في تونس في يناير/كانون الثاني من عام 2011، ووصلت إلى مصر في نفس الشهر، قبل أن تمتد إلى اليمن وليبيا وسوريا خلال أسابيع- من المهم أن نتذكر أن الشباب في هذه الدول هم الذين بدأوا تلك الثورات، باحثين عن حرية تضمن حقوقهم الأساسية، بما فيها رغيف الخبز والمسكن، والأهم حقهم في الحياة في مواجهة ديكتاتوريات قاسية.
فحين يقضي الشباب أجمل سنوات عمرهم خائفين من الأجهزة الأمنية، وحين يتضاءل أملهم في الحصول على لقمة العيش، فإن الناتج يكون مزيجاً من انعدام الأمل والشعور بالإهانة، وهي تركيبة شديدة الانفجار.
قبل سنواتٍ من ثورات الربيع العربي، كان بمقدور المصريين رؤية ثورة قادمة على الطرق، كان الإمكان أن تشم نذرها في الجو، إذ وصل الفقر إلى مستوياتٍ غير مسبوقة تجاوزت 70% وأصبح مألوفاً أن ترى بشرا يبحثون في حاويات القمامة عن أي شيء صالحٍ للأكل. الغالبية استشعروا بأنها ستكون ثورةَ جياع مدمرةً لن تُبقي على شيء.
قبل الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني من عام 2011، أشعل العديدُ من الشباب مواقعَ التواصل الاجتماعي بدعواتٍ للثورة، وهى الدعوات التي لم يأخذها الغالبية بجدية، وخاصةً النظام الحاكم، حيث سخر الرئيس السابق حسني مبارك من الشباب في خطابٍ عامٍ موجَّهٍ إلى أنصاره في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم من هذه الدعوات ومن دعوات أخرى من المعارضة التى حرمت بالتزوير من دخول البرلمان بعقد برلمان مواز، بقوله: "خليهم يتسلوا". وهي المقولة التي انفجر بسببها جمهور الحضور من سياسيين ورجال أعمال ضحكا ساخرين من بؤس الشعب.
وجاء الخامس والعشرون من يناير/كانون الثاني، وقد بدا يوماً ككل الأيام الأخرى..
في طريقي إلى المكتب، كانت الفوضى المرورية المعتادة هناك، كما كان البؤس المعتاد يعتلي وجوه المارة.. كانت الساعة حوالي الثامنة مساءً حين انتهيت من عملي في الجريدة، وسمعت الزملاء يتحدثون عن تجمع بعض الشباب في ميدان التحرير الذي يبعد مسافة عشر دقائق مشياً عن مقر الصحيفة..
تلك الليلة، كان مُقرراً أن أظهرَ فى برنامج يُعرض في وقت متأخر من الليل على التلفزيون الحكومي، وبدلاً من البقاء في مكتبي حتى وقت البرنامج، مشيتُ إلى ميدان التحرير لتفقُّد ما يحدث هناك. وعلى عكس توقعات الغالبية بأن الطبقات الاجتماعية الدنيا هي التي ستثور، صدمني مشهدان كانا شديدي الوضوح:
• جميع المتظاهرين كانوا شباباً في العشرينات وبعضهم فقط كان في الثلاثينات من العمر.
• أن معظم المتظاهرين كانوا من طبقة النخبة الغنية، شبابٌ ذهبوا إلى أرقى الجامعات ويقودون أغلى السيارات الفارهة، والمدهش أنك كنت تراهم يواجهون الديكتاتوريةَ التي حكمت مصر ثلاثين عاماً غير خائفين.
كيف تأتَّى لهم هذا الإيمان الراسخ الذي دفعهم للتخلي عن رفاهيتهم وأن يجازفوا بحياتهم؟ بعد ساعات -امتدت لأيام فيما بعد- من الحوار، حصلت أخيراً على أجوبةٍ لأسئلتي:
"صحيحٌ أننا ننتمي إلى عائلات غنية ونتمتع بالكثير من الرفاهية، وبفرص للتعليم في أرقى وأغلى الجامعات سواء في مصر أو في الخارج، إلا إننا نشعر باحتياجات الفقراء والمحرومين"، هكذا رد علي خريجٌ الجامعة الأميركية في القاهرة.
أما ذلك الشابٌ الذي بدا متأنقا، فقد أكد: "أخلاقيا ينبغي علينا أن نحارب من أجل أولئك المعدمين، لكن هذا ليس السبب الوحيد. فمن الناحية البراغماتية، إن غضضنا الطَّرفَ الآن عن المظالم الواقعة على بسطاء المصريين ضحايا النظام الاستبدادي الفاسد، فإن هذا سيعرِّض حياتنا للخطر إن آجلاً أو عاجلاً. إننا إن أشحنا بوجوهنا عن بؤس هؤلاء الذين يشكِّلون الأغلبية، فإن الأمر لن يكون مجرد أنانية وإنما غباء، إذ إن ثورتهم ستكون مدمرة لنا أيضاً، وسيكون الأمر جحيماً".
كان مدهشاً أن يتشارك مئاتٌ من الشباب في مواقف متشابهة تخطت بكثير في نضجها ونبلها مواقف سياسيين ذوي أفكار فاسدة ضيقة الأفق. على الفور، حوصر هؤلاء الشباب.. حوصروا بمئاتٍ من الجنود وعناصر الأجهزة الأمنية. استشعرت خوفا عليهم، وتوقعت رضوخهم خلال ساعات قليلة، لكنهم لم يفعلوا، فقد كانوا مستعدين للموت من أجل الفقراء.
بحلول منتصف الليل، كانت قوات الأمن قد أوقعت إصابات خطيرة بآحاد من المتظاهرين..
مرة أخرى، توقعت أن يتفرقوا، لكنهم لم يفعلوا، وبدلاً من ذلك، قاموا بتقديم الزهور والورد للجنود الذين اعتدوا عليهم من دون أن يحاولوا الدفاع عن أنفسهم، وإنما كان يؤكدون للجنود أن هدفهم هو الدفاع عنهم وعن أسرهم الفقيرة. بعد مرور يومين، وبعد قتل عدد من المتظاهرين، بدأوا يدافعون عن أنفسهم بإلقاء الحجارة على القوات المهاجمة..
وبعد صراع مدة يومين، بدأت مجموعاتٌ أخرى تفد إلى الميدان، دفاعاً عن إخوانهم الشباب والقيم النبيلة التي يدافعون عنها، في غضون ثلاثة أيام انضم الآلاف إليهم في ميدان التحرير، تضاعفوا لعشرات الآلاف في غضون أيام. وبعد فترة وجيزة، بدأ كل من الجيش والشرطة بالاعتداء على المتظاهرين..
في الثالث من فبراير/شباط.. وعندما شعر النظام بالحرج أمام العالم كله، بدأ يمد يده للتفاوض مع ممثلي عن الشباب. وخلافاً للقصة الشائعة من أن أول لقاء بين النظام والشباب كان مع الرئيس السابق للمخابرات، اللواء عمر سليمان، فإن أول لقاء كان مع أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق والصديق المقرب للرئيس الأسبق مبارك.
كان ممثلو الشباب الثوري في منتهى الجرأة في مواجهة مطالب رئيس الوزراء بإنهاء اعتصامهم.. كان موقفهم حازما وموحدا على الاستمرار في اعتصامهم حتى تنحى مبارك، جنباً إلى جنب مع إقالة جميع المسؤولين الفاسدين..
وفي وقت لاحق، عقدت جلستان أخريان من المحادثات التي لم تُفض إلى شيء. ومع ذلك، يجب أن أعترف أنه طوال الوقت كان رئيس الوزراء الأسبق مهذباً كعادته ولم يفقد أعصابه للحظة. وبعد مرور 18 يوماً كان على الجيش أن يفرض على الرئيس أن يتنحى عن السلطة.
على الرغم من أن الديكتاتوريات قمعت ثورات الربيع العربي بوحشية بالغة، إلا أنه يجب القول بأن الأخيرة أثبتت أن الشباب لم يفقد الأمل في تغيير حاضره لامتلاك مستقبله.
وبخلاف تلك المفارقة المذهلة والنبيلة في آن واحد بأن شباب طبقةَ النخبة اقتصاديا واجتماعيا هي من أطلقت شرارة هذه الثورات من أجل الفقراء، فقد كانت الثورة في مصر مذهلة من عدة أوجه:
• سلمية الشباب التي تزاوجت مع الحزم والعزم على إسقاط ديكتاتورٍ حكم بالفساد والخداع على مدى ثلاثة عقود.
• على الرغم من أن قوات الشرطة والبلطجية -الذين قام أزلام الديكتاتور الأسبق باستخدامهم- قتلوا الآلاف وشوهوا عشرات الآلاف، فإن الشباب لم يتخلَّوا مطلقا عن ثورتهم، كما لم يتخلوا عن سلميّتها. بل على العكس، فقد هددوا بالمسير من ميدان التحرير والميادين الأخرى في جميع أنحاء البلاد للوصول إلى القصر الرئاسي، وهو التهديد الذي عجل بإسقاط الديكتاتور.
• النبل، والرومانسية ومثالية الثوار، والشباب في مقدمتهم، في محاولتهم تحقيق تطلعاتهم المشروعة لإعادة صياغة ليس فقط مستقبلهم، وإنما أيضاً مستقبل وطنهم. وقد كانت الحملة الضخمة التي أطلقها شباب الثوار عبر البلاد لتنظيف وتزيين الشوارع رغم محدودية مواردهم مجرد مثال ليقولوا للشعب إن مصر باتت ملكا لهم جميعا وليس لحفنة من الحكام والقلة المستفيدة منهم.
ومع ذلك، فقد أخطأ الشباب عندما ظنوا أنهم هزموا آلة الديكتاتورية، فقد خلطوا بين الشخص (الديكتاتور) والنظام (الديكتاتورية) معتقدين أنهما كيانٌ واحد.
وفي غضون أشهر، بدأت آلة الديكتاتورية في الدوران مرة أخرى، إذ شوَّهت صورة الثورة ولم تكتفِ بتحطيم آمال الشباب، بل ارتكبت جرائم مؤسفة، بما في ذلك عمليات الاغتيال والخطف والاختفاء القسري وإدانة الآلاف بتهم ملفقة، وليُحكم على بعضهم بالإعدام في محاكمات بعضها لم يتجاوز الجلستين فقط. والآن وبعد مرور خمس سنوات على الثورة، يقبع أكثر من 44 ألف شخص في السجون، معظمهم بتهم واهية، في الوقت الذي يتم تشييد المزيد من السجون لقادمين جدد.
الشاهد، إن الحرية مسألة اختيار، وحتى الآن يبدو أن الأجيال الأكبر سناً من المصريين، الذين نشأوا وترعرعوا في ظل الديكتاتورية، قد نسوا المذاق الرائع لحرية لم يُخبَروها، ولذا لا يطيقون نضالا لنيلها. إلا أنني كلما تذكرت ذلك الصبي الصغير وهو يقول لي يود عندما يشب أن يكون إنسانا حرًّا، أستشعر ثقة بأن الملايين من شباب اليوم، ومن وراءهم أطفال هم شباب الغد قد عقدوا العزم على تحرير أنفسهم وبلادهم من الطغيان. لا تقلقوا هي قادمة.. الحرية بالطبع!
النص الأصلي للمقالة نشر باللغة الإنجليزية هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.