من هو المثقف الحقيقي؟

الرؤية المرتبطة مع نسق المجتمع والتي تُراعي خصوصياته التاريخية وأصالة السياق الثقافي التي شكّلت بُنية الأمة والتي يُمكن اختصارها في قيم الإسلام وتصوراته العامّة في الإطار الإنساني, واستحضار الكليّات الإسلامية في تكامل بين الأصالة والتجديد, بين الماضي والحاضر.

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/14 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/14 الساعة 03:38 بتوقيت غرينتش

لا يجب على الأحداث اليومية المتسارعة والمتلاطمة أن تأخذ منّا القدرة على استنباط أساسيات المعرفة التي تحكم على السياقات الفكرية والتاريخية والتي تُساهم في تيسير عملية الفهم والمساءلة لتلك الأحداث.

والثقافة كانت – ولا زالت – وفي ظنّي ستبقى واحدة من أهمّ تلك السياقات التي تحتاج إلى مزيد تفكير وتفكيك للوصول إلى صورة واضحة وموجزة تسعى لتحديد دور المثقّف في واقعنا اليوم, وكذا واقع كل أمّة.

إنّ تعرية مفهوم الثقافة – ثم المُثقّف -عن لبوس (الآخر) لتظهر (الأنا) الخاصة به تحلّ واحدة من أهم مشاكل هذا المفهوم, والمقصود مساءلة العلاقة القائمة بين "الأنا والأنا الذي ليس أنا" كما يقول سارتر. العلاقة التي تشوبها الكثير من المشاكل المتعلّقة بسوسيولوجيا الكولونيالية, ظاهرة الاستعمار وما بعد الاستعمار أو كما يُسمّيها هيجيل نظرية "جدلية العبد والسيد", إذ مازالت هذه العقدة محلّ أخذ وجذبٍ فكري لا ينتهي.

لا شكّ أنّ أهل الفكر والفلسفة قد قدّموا في هذا الباب ما قد يسدّ رمق القارئ حدّ الارتواء, إذ تم إحصاء أكثر من 164 تعريفاً للثقافة والمثقّف, ومع هذا يكثر السؤال حول دور المثقف ومهمته – ولا عجب نظراً لعدد التعريفات الهائل – وتعريف ماهيته, تصوراته, قيمه, مدى إبداعه, خصوصياته, هويته, أين تنتهي حدوده؟ وعدد كبير من الاستفسارات والأسئلة التي لا تُحصى في هذا الباب.

والحقيقة أنّني لا أريد أن أغرق في مطارحات فلسفية عميقة قد كفانيها مجموعة من المفكّرين والفلاسفة الكبار كسارتر وهيجل ونيتشه وكلرك وشريعتي والجابري وبن نبي والمسيري وإدوارد سعيد وكثير غيرهم ممّن ساهم في صياغة عالم الأفكار في هذا الجانب من جوانب التنظير الفلسفي والفكري.
لكنّني أسعى لأن أجيب عن سؤال واحد وبطريقة مُيّسرة, بعيداً عن التعقيد الصعب الذي يذهب بالفائدة ومتعة الاستفادة معاً, من هو المثقّف الحقيقي؟

إذا نظرنا إلى الثقافة بادئ الأمر نجد أنّها (معرفة) متنوعة في إطار عام ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمرجعية فكرية ما وإدراك بالمجتمع واتّصال بالبيئة, إذ لا يُمكن للثقافة أن يكون لها ذاك الأثر إن لم ترتبط بخلفية فكرية وأن يكون لها بيئة مجتمعية حاضن.

فينعكس ذلك كلّه عندما يكتب الأديب روايته ويقول الشاعر قصيدته ويرسم الفنّان لوحته, بل ينعكس ذلك في لباسك ونوع طعامك. هنا إذن, وفي هذه اللحظة سأسمح لنفسي بالقول إنّه لا يصّح أن نخلع لقب المثقّف على أي شخص يُفكّر في مجتمع ما وفق بيئة أخرى ينطلق من أفكارها وأُطرها وينظر بمنظارها الاجتماعي. من هو المثقّف الحقيقي مرة أخرى؟

للإجابة عن هذا السؤال المحوريّ, علينا أن نسأل سؤالاً آخر قد يُساهم في الإجابة على السؤال الأول, ما مسؤولية المثقّف أصلاً؟ والحقيقة أنّني وجدت علي شريعتي قد وُفّق في وضع خصيصتين مهمتين للمثقّف: الأولى أن يمتلك العقل النقدي والثانية أن ينخرط مع الناس في محاولات التغيير باعتباره يملك الرؤية الواقعية والمتغيّرات والمسارات المختلفة, وأضاف شريعتي أنّ المثقف هو ذلك الشخص الذي يقوم بدور النبوّة حيث لا نبوّة.

وقد أبدع شريعتي هنا لأنّ هذا حقاً ما يُمكن أن نطلق عليه (وارث النبوّة) الذي يتحمل مسؤوليته الأخلاقية للانخراط مع الناس وفهم سنن التغيير, ثم يُعطي هؤلاء الناس أدوات الفهم ولا يحتكرها في مجموعة من النظريات الجامدة والمُعقّدة ليجعل من نفسه أيقونة أو مرجعاً ما.

انطلاقاً من مفهوم شريعتي وجب أن نقف قليلاً عند الموروث الغربي لمفهوم المثقّف والذي انتزع من رجل الدين الكاثوليكي خصوصية الثقافة, ثم تمّ فرض هذه الرؤية في الوطن العربي والعالم الإسلامي انطلاقاً من كون رجل الدين غير مثقف أو غير معني بالثقافة, وهي رؤية علمانية بحتة تضع الثقافة مقابل الدين.
وكذلك تضع المثقّف مقابل رجل الدين في قراءة أوروباوية تفتقر إلى الموضوعية, ولذلك ستجد أنّ المثقّف الإسلامي اضطّر لأن يضيف صفة (الإسلامي) للتأكيد على حمله مرجعية دينية أو فكراً دينياً.

كما أنّ القارئ سيجد في الموروث الفلسفي العربي والإسلامي مفهوم الفقيه والعالم والفيلسوف والمُجدّد وهي مفاهيم تتضمن صفات المثقف اليوم في كثير من الجوانب، كما ذكر المودودي.

المُثقّف إذن أوسع وأكثر عمقاً وتأثيراً من مُجرّد فرد يمتلك الكثير من المعلومات في الفنون المُتعدّدة, أو كما يُردّد البعض من كونه الشخص الذي يعرف شيئاً عن كل شيء. الحقيقة أنّ المثقّف الحقيقي هو ذلك الإنسان المُهذّب الذي يُعبّر وبطريقة حسّية عن علاقته بالعالم من حوله, علاقته بتراثه البعيد وتفاعله مع واقعه المُتجدّد وقضاياه العامّة, يُعبّر عن رأي الجماهير ويتفاعل معهم في إطار تحمّله للمسؤولية.

ثم يجعل لكلّ ذلك أثراً في واقعه وواقعنا من خلال النشر والتواصل الفكري. كلّ ذلك في إطار مستقل عن السلطة الحاكمة ورأس المال الذي بات اليوم مُتحكّماً وإلى حدٍّ كبير بالمثقّف العربي حتى صار موظفاً عند الدولة.

نشهد اليوم تغيّراً ملحوظاً في عالم الثقافة حرّر جزءاً كبيراً من شباب الأمة ومثقّفيها وجعلهم أكثر استقلالاً, وصاروا بفعل التطور التقني والإعلامي أقرب لنبض الشارع وأوجاع الأمة, وهذا بالطبع لن يُعجب السلطات والدول التي أرادت لهم أن يظلّوا حبيسي الصحف الرسمية ومؤسسات الدولة الإعلامية التي وهنا يكمن دور المثقّف في رفض العوائق التي تضعها الدول في طريق الوعي والنهضة إذ هو الشخص الذي يُمثّل ضمير الناس, وأحد أهم مصادر التأثير في الأمة.

علينا أن لا ننسى أنّ الاستبداد قديماً وحديثاً كان أحد أهم أسباب ضعف المؤسسات الثقافية والعلمية في العالم الإسلامي ومنع التطور العلمي الحقيقي وممارسة الاجتهاد بمعنى عام.

لذلك ستجد أنّ مثقفي الأمّة نتيجة الهامشية المريرة التي عاشتها مراكز العلم والتثقيف في الأمة هربوا نحو الغرب حتى أضحوا أسارى المثقّف الغربي والذي عمل على تصدير نظريات معلّبة وجاهزة بدءاً من الماركسية والرأسمالية وانتهاءً بنظريات الحداثة, وهذا يُفسّر أنّ الأزمة الحقيقية التي يُعانيها المثقف العربي والمسلم اليوم ترتبط مباشرة بغياب الرؤية الأصيلة المنطلقة من زمانه ومكانه هو لا زمان ومكان (الآخر).

الرؤية المرتبطة مع نسق المجتمع والتي تُراعي خصوصياته التاريخية وأصالة السياق الثقافي التي شكّلت بُنية الأمة والتي يُمكن اختصارها في قيم الإسلام وتصوراته العامّة في الإطار الإنساني, واستحضار الكليّات الإسلامية في تكامل بين الأصالة والتجديد, بين الماضي والحاضر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد