جمعتني إحدى ليالي دمشق خلال الشهر الماضي بصحفيّتين أجنبيّتين كانتا في زيارةٍ لسورية، إحداهما أميركية-كندية تهتم بالشأن السوريّ جزيل الاهتمام وتحبّ حضارة هذه البلاد.
كما لاحظت أنّها تستهوي حفظ بعض العبارات والكلمات باللغة العربية واللهجة السورية تحديداً، فقلت لها أنّ عليها تعلّم عبارة جديدة ستحتاجها كثيراً خلال زياراتها لهذه الدولة والاحتكاك مع شعبها، وبالفعل، أخرجت دفتر الملاحظات الخاص بها ودوّنت في أسفل إحدى صفحاته باهتمام الكلمات الّتي أمليتها عليها: "الله يْفَرِّجْ "، "أحسن شي"!
بدأت هذه العبارة تترسخ في ذهني بدايةً حين كان يستعملها بشكل كبير سائقوا "التاكسي" و"الميكرو" في العاصمة السورية دمشق، حيث أقيم، عندما يحدّثون الراكب عن حال البلاد المستعصية ويناقشون تفاصيل أزمتهم ليس بلسان حال السياسيين والديبلوماسيين إنّما بمنظورهم كمواطنين بؤساء جار عليهم الزمان وضرّتهم الأزمة بشكل كبير.
كان إطلاق عبارة "الله يْفَرِّجْ"، أي عسى أن يعجِّل الله بالفرج باللهجة الدمشقية، دليلاً على أنّ النقاش في هذي الأمور عقيمٌ لن يجدي نفعاً بقدر ما يمكن أن يحمل من ضيرٍ على من يستفيض في ذكر تعاسة الحال.
وبعد الرد عليها بعبارة "أَحْسَنْ شِيْ"، يكون قد بات واضحاً لطرفي النقاش أنّ كليهما على دراية بألم الآخر ومعاناة الشعب الّذي يقاسي الأمرّين منذ قرابة خمس سنوات، فيتوقف الطرفان عن الحديث ويدخلان حالة صمتٍ أو يحاولان الانتقال إلى موضوعٍ آخر أقلّ تعقيداً.
ومع الوقت، بدأت هذه العبارة بالانتشار بين مختلف أوساط الناس، وبتّ تسمعها في الشوارع والمكاتب والبيوت والمطاعم وكلّ مكانٍ مثلها كمثل ما يردّده الناس هنا عموماً مثل: "نشالله" (أي إن شاء الله)، و"الحمدلله"، وغيرها.. وصار ذلك الانتشار دليلاً واضحاً على أنّه لا يمكن لسوريِّيَن أو أكثر أن يجتمعا دون التطرّق إلى حديثٍ مُغِمٍّ عن معاناة كلٍّ منهما.
هي مشكلة خطر الموت في الطرقات والمنازل جرّاء الصواريخ والمتفجّرات وقذائف الهاون، ومشكلة التدهور الاقتصادي الّذي حرم الناس مباهج الحياة والكثير من أساسيّاتها، بشكل جزئيٍّ حيناً وكاملٍ أحيانا، وأزمة الحرّ الشديد في الصيف والبرد القارس في الشتاء، فلا محروقات هنا ولا كهرباء هناك، وفي حال توفّرت البدائل فلا سبيل لتوفير ثمنها.. والكثير من الألم المتفشّي حتّى بين ضحكات الناس في المقاهي.
سألتني تلك الصحفية عن التوقيت المناسب لاستخدام هذه العبارة "كمحترفة"، فشرحت لها بالإنكليزية آملاً أن يصلها ما أبتغي من معنىً: "متى شعرتِ بأنّ النقاش وصل أكثر مراحله تعقيداً وحمل أكثر تعابير الإحباط.
فعليكِ أن تنادي بهذه العبارة طالبةً الفرج من قوّةٍ غير بشرية، وربما لجأ الشعب إلى ذلك لأنّهم قاسوا كثيراً جرّاء الاعتماد على الطاقة والعقل البشري في حلّ أزمتهم، ولذلك فإن هذه المناجاة المتصاعدة إلى السماء هي "أّحْسَنْ شِيْ" قد نستطيع قوله في هذه الأوقات العصيبة.
قد تحمل هذه العبارات وليدة الأزمة دلائل ألم، لكنّها أيضاً، بطبيعة الحال، تحمل دلائل إيمانٍ راسخٍ بأنّ هناك فرجاً آتٍ لا محالة، وسيأتي على يد قوّةٍ إلهيةٍ إن لم تحمله أذرع البشر. وفي نهاية المطاف، ليس هناك ما هو أمثل من التمسّك بقوّة الأمل للمضي قدماً في الحياة مهما كانت الصعاب.
وهذا درسٌ يعلّمه لنا التاريخ الحافل بدلائل على أنّه لا يوجد أزمة تدوم، أو جرحٌ يستعصي على الزوال، إنّما الزمن كفيلٌ بتحسين كلّ حال.