إنهم يفرّون من الحرب المحتدمة ببلادهم.. جمعوا آخر ما لديهم من أموال لدفعها مقابل الحصول على مكان على متن قارب هزيل من المفترض أن يأخذهم من تركيا إلى اليونان ومنها إلى حياة أفضل وأكثر أمنًا في أوروبا، ولكن ما إن يخوض قاربهم في المياه المتجمدة ببحر إيجة، حتى يجد الكثير من السوريين أن سترات النجاة التي اشتروها تسحبهم إلى الأعماق لأنها محشوّة بالرغوة، القماش أو الورق بدلاً من مواد تساعدهم على الطفو.
وبينما تحاول تركيا الحد من أعداد السوريين العابرين إلى دول الاتحاد الأوروبي، تنفيذًا للاتفاق الذي أبرمته مع القادة الأوروبيين في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، تكافح السلطات أيضاً هذا النشاط الاقتصادي غير المشروع الذي ظهر نتيجةً للهجرة الجماعية، والذي لا يقتصر على عصابات مهربي البشر.
اليونان كانت قد استقبلت حوالي 850 ألف مهاجر خلال العام الماضي، أغلبهم أتى عبر تركيا، وهذا عدد كبيرٌ في حاجة إلى سترات نجاة، بحسب ما نشرت صحيفة "ديلي بيست".
هذا الأسبوع، قامت شرطة مدينة أزمير، أكبر المدن على ساحل بحر إيجة التركي ومركز النازحين إلى اليونان، بمداهمة ورشة غير قانونية تُنتج سترات للاجئين، ووجدت الشرطة هناك فتاتين قاصرتين سوريتين واثنين آخرين يعملون على حشو سترات النجاة بأوراق التغليف، وألقت القبض على مالك المكان.
اللاجئون الذين يعانون ضائقة مالية يعلقون آمالهم للبقاء على قيد الحياة على هذه السترات، والتي تتكلف الواحدة منها 20 ليرة تركية (ما يعادل 7 دولارات)، وفقاً لتقارير إخبارية تركية. بعضها محشوٌّ بالإسفنج الذي يمتص المياه فيسبب الموت بدلاً من إنقاذ الأرواح.
وفي الأسبوع الماضي، عُثر على جثامين 34 شخصاً على شواطئ شمالي غربي تركيا، غرقوا أثناء محاولتهم الوصول إلى الجزيرة اليونانية القريبة "ليسبوس"، العديد منهم كانوا لا يزالون يرتدون سترات النجاة الوهمية.
ولم تكن مداهمة الشرطة لمدينة أزمير لم تكن أولى علامات استغلال البعض لموجة اللجوء، حتى إذا تضمَّن ذلك تعريض حياة الناس للخطر، ففي الصيف الماضي، أوردت صحيفة تركية أن لاجئين في منطقة أزمير يستخدمون سترات نجاة رخيصة سوداء اللون بدلًا من لونها البرتقالي، للتهرب من زوارق خفر السواحل خلال العبور إلى اليونان، لكن تلك السترات كانت تقلص من إمكانية رؤيتهم في الماء، وبالتالي تقلص احتمال إنقاذهم إذا انقلبت قواربهم.
ويبدو أن تجارة الربح السريع آخذة في الانتشار، ففي سبتمبر/أيلول الماضي، أقالت فرنسا قنصلها الفخري في منتجع "بودروم" بعد أن أظهرت لقطات مصورة بيعها لقوارب وسترات للاجئين، ولكن القنصل المُقال، فرانسواز أولكاي، قالت حينها إنها لم تقم ببيع تلك المعدات إلى اللاجئين، وقام شخص آخر بذلك.
وكانت على حق في أنه يوجد الكثير ممن يستغلون النزوح السوري، حيث عصابات تهريب البشر المنظمة تنظيمًا جيدًا، والتي تعتمد على شبكة من الفنادق الرخيصة في المدن الساحلية والحافلات وسائقي سيارات الأجرة الذين ينقلون اللاجئين إلى الشواطئ وأحيانًا من أماكن بعيدة مثل إسطنبول، ففي أكتوبر/ تشرين الأول، كشفت الشرطة في أزمير عن ورشة تُنتج قوارب مطاطية لبيعها للاجئين، وقالت السلطات حينها إن القوارب ليست صالحة للإبحار.
السوريون الأغنياء لا تنتابهم تلك المخاوف، فبإمكانهم حجز رحلة عبورهم عبر قوارب سريعة فاخرة، فقبل شهرين، داهمت الشرطة بالمنتجع الجنوبي بجزيرة مارماريس عصابة تهريب بشر متخصصة بنقل المهاجرين الأثرياء إلى جزيرة يونانية قريبة في مجموعات صغيرة تجنباً للفت الانتباه، ويُطلق عليها اسم "خدمة VIP للاجئين" حسب تعبير وسائل إعلام تركية.
حيث توفر العصابة العبور الآمن الذي يستغرق 10 دقائق مقابل 3300 دولار للفرد الواحد، أي ما يعادل 3 أضعاف معدل تكلفة الذهاب على متن زورق مطاطي.
وتقول الحكومة التركية إنها تفعل ما بوسعها لخفض أعداد المهاجرين، ومحاربة تجار البشر، فأعلن تقريرها الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أنه "تم إلقاء القبض على أكثر من 200 من سماسرة الهجرة غير الشرعية، وتم تفكيك العديد من تلك المجموعات منذ 2014".
ولكن أنقرة تقول بوضوح إن المشكلة لا تتعلق بمهربي البشر فقط، بل برغبات اللاجئين أيضاً، وشرح التقرير الحكومي أن "السلوكيات القائمة توضح أن المهاجرين غير الشرعيين يجازفون بكافة سبل المخاطر الحالية في هجرتهم عبر البحر، وإنهم لا يترددون في محاولة خوض تلك الرحلات المحفوفة بالمخاطر حتى ينجحوا".
والواقع لا يظهر أي مؤشرات للتغيير، ففي أكساري، أحد الأحياء المطلة على الجانب الأوروبي من إسطنبول، والذي أصبح مركز تجمع اللاجئين، مزوري جوازات السفر والمهربين؛ قال سوريون إنهم يعرفون كل شيء عن الإجراءات الجديدة الصارمة التي تتبناها الشرطة التركية على طول السواحل، كما يعرفون مسألة وعود الحياة الأفضل في تركيا بمساعدة 3.3 مليار دولار من أموال مساعدات الاتحاد الأوروبي، والتي هي أحد أركان اتفاقية القادة الأوروبيين مع تركيا؛ ولكن هذا لا يعني أنهم تخلوا عن حلمهم بالذهاب إلى أوروبا.
محمد، يبلغ من العمر 51 عاماً، وهو أب لـ 4 أبناء، كان يبيع القهوة للمارة في شوارع أكساري بالصباحات الباردة هناك، قال إنه يكافح من أجل توفير ما يكفي لدفع الإيجار الشهري للمسكن الذي يضمه وعائلته، والذي يتكلف 220 دولاراً، وأضاف "إذا كنت أملك المال؛ لكنت ذهبت إلى ألمانيا غدًا"، ولكن في هذه اللحظة محمد لا يمكنه توفير 1000 دولار للفرد الواحد من أسرته لتوفير مكان على متن قارب ينقلهم إلى جزيرة يونانية.
وبالنسبة لهؤلاء الذين يصرفون آخر قرش لديهم في محاولة الوصول إلى اليونان، فإن توفير المال في صفقة سترات نجاة تشكِّل إغراءً عظيماً، حتى وإن كان الغش الذي يشوبها قاتلاً.