تناقضات كندية

عندما جئت مُهاجراً إلى كندا، لم أكن أتوقع أن أصطدم في يوم من الأيام بتناقضات صارخة فيما يخص منظومتها القانونية وتطبيقاتها على أرض الواقع، لكن عندما تعمَّقت في تلك المنظومة وتعرضت لبعضها في أكثر من موقف مباشر وغير مباشر، وقفت مشدوهاً لا أفهم كيف يمكن لذلك أن يحدث في كندا؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/09 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/09 الساعة 02:04 بتوقيت غرينتش

عندما جئت مُهاجراً إلى كندا، لم أكن أتوقع أن أصطدم في يوم من الأيام بتناقضات صارخة فيما يخص منظومتها القانونية وتطبيقاتها على أرض الواقع، لكن عندما تعمَّقت في تلك المنظومة وتعرضت لبعضها في أكثر من موقف مباشر وغير مباشر، وقفت مشدوهاً لا أفهم كيف يمكن لذلك أن يحدث في كندا؟
لدرجة أني في بعض الأحيان ومن شدة التناقض وغياب المنطق، كان ينتابني شعور بأني أرغب في دكِّ رأسي بالجدار!

بعد مدة من التأقلم مع هذا النوع من التناقضات، سلَّمت بأنه أمر طبيعي لأنه ليس من عند الله، فهي قوانين وضعية بشرية لها أن تصيب وتخطئ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الناس لا يَفصل بينهم النزاع إلَّا كتاب مُنزَّل من السماء، وإذا رُدُّوا إلى عقولهم، فلكل واحد منهم عقل" (مجموع فتاوى ابن تيمية 163/20).

ولم أجد في حياتي أصدق مما قال هذا الشيخ الجليل في حق قوانين موضوعة من عقول البشر، فتلك العقول متفاوتة فيما بينها بكل تأكيد، فمعايير العدالة لديها لن تصل إلى عدالة السماء، ناهيك عن أنَّ القوانين الوضعية تُصاغ -في بعض الأحيان- لصالح أحزاب سياسية ولوبيات وفئات قوية في المجتمع.

ما لفت انتباهي أيضاً أنَّ بعض القوانين فضفاضة تشوبها الضبابية وعدم الوضوح، الأمر الذي جعل لمهنة المحاماة قيمة كبيرة في منظومة القضاء الغربي عموماً، فمن خلال التناقض من جهة والضبابية من جهة أخرى، يستطيع المحامي أن يلعب لعبته القانونية باحتراف ليُبرِّئ المتَّهم ويَتَّهم البريء.

والمواقف التي تشهد على ذلك كثيرة جداً.. فعلى سبيل المثال ممارسة الحرية في كندا من دون وعي أو حذر أو اكتراث لكثير من التفاصيل، قد تتحول إلى تهمة، فمع الأسف الشديد هذا الأمر جعل الحياة في الغرب مليئة بالضغوطات والتوترات، فمن الممكن لأي مارق أن يتهمك بما ليس فيك، ووقتها لم يعد اللجوء إلى المحامي خياراً.. بل إجباراً لتنقذ نفسك وأسرتك!

من التناقضات الصارخة في القانون الكندي:
١) عَلمَانية الدولة: وفقاً لدستور عام 1982م، فإنَّ كندا رسمياً دولة عَلمَانية ومُحايدة تجاه القضايا المتعلقة بالدين، فهي تأسست على المبادئ التي تعترف بسيادة الله وسيادة القانون من دون أن تتخذ ديناً رسمياً للدولة.

وتعامل جميع مواطنيها بشكل متساوٍ بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية من دون تفضيل دين على دين. وعلى الرغم من هذا الوضوح في الدستور في المادة 2 والمادة 15، إلاَّ أنَّ التناقض موجود فيما يخص تمويل المدارس الكاثوليكية من مال الدولة العام.
ففي بعض المقاطعات مثل: (أونتاريو، ألبرتا، وساسكاتشوان) يتم توفير تمويل حكومي كامل للمدارس الكاثوليكية بسبب بند الامتيازات الطائفية (Denominational Privileges) المنصوص عليه في المادة 93 من دستور عام1867م القديم والذي يتعارض مع دستور عام 1982 المُعدَّل.
وهذا تناقض صارخ، إذ كيف بدولة عَلمَانية أن تخصص جزءاً من أموال دافعي الضرائب الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة لتنفقه فقط على المدارس الكاثوليكية؟
بالمقابل يتم حرمان المدارس الدينية الأخرى من تلك المخصصات. حالياً يوجد بعض المنظمات العَلمَانية في كندا تحاول إلغاء هذا القانون، على رأسها منظمة (التحالف العَلمَاني الكندي – Canadian Secular Alliance)
وهي منظمة غير ربحية متخصصة في أبحاث السياسات العامة للدولة، وتعمل منذ سنين على فصل الكنيسة عن الدولة من أجل حكومة مُحايدة فيما يخص قضايا الدين، الأمر الذي سيُمكِّن الدولة الكندية من تمثيل جميع الكنديين على حد سواء، فهم يعتقدون بأنَّ حكومة كندا ما زالت لا تعتمد سياسات عامة تتفق والدولة العَلمَانية.

٢) حقوق الأقليات: على الرغم من ضمان حقوق الأقليات في الدستور الكندي، إلَّا أنَّ حكومات كندا المتعاقبة ارتكبت جرائم تاريخية فيما يخص حقوق السكان الأصليين (الهنود الحمر)، فحتى عام1960م، لم يُعاملوا كمواطنين، فلم يتم السماح لهم بالتصويت في الانتخابات الكندية.

ولم يكن لهم حق ترك أو مغادرة حدود محمياتهم من دون الحصول على إذن من وكيل الحكومة في أقاليمهم، وفي كثير من الأحيان لم يمكنهم إنشاء الأعمال التجارية، أو اقتراض المال، أو الحصول على ملكية خاصة، أو حتى الحصول على اسم في حالة قبائل (الإسكيمو – Inuit). وقد خرج مؤخراً رئيس وزراء كندا "جاستين ترودو" ليُقدِّم إعتذاراً رسمياً باسم الدولة الكندية للسكان الأصليين في البلاد على خلفية الإساءات العديدة التي تعرضوا لها على مدى عقود من الزمن في المدارس الداخلية (Residential Schools) والتي ألزمتهم الحكومة بالدخول إليها، فقد تم فصل أكثر من 150 ألف طفل عن ذويهم ليكبروا داخل تلك المدارس سيئة السمعة، والتي كانت تموَّل من الحكومة الكندية وتُدار بواسطة الكنيسة الكاثوليكية والإنجليكية لإبادة ثقافة سكان كندا الأصليين.

وقدَّم ترودو اعتذاره أمام مجموعة من الطلاب السابقين في تلك المدارس الداخلية ومجموعة من زعماء السكان الأصليين في حفل مؤثر جرى في العاصمة الكندية أوتاوا في ديسمبر/كانون الأول 2015م بمناسبة صدور التقرير الختامي للجنة تقصي الحقائق والمصالحة في هذا الشأن.

٣) الإقامة الدائمة: عندما يصل المهاجر إلى كندا يحصل مباشرة على بطاقة الإقامة الدائمة (Permanent Resident Card) والتي تُعرف في الولايات المتحدة بالبطاقة الخضراء (Green Card)، والعجيب أنها تُسمَّى بـ (الدائمة) ولكن في حقيقة الأمر هي مؤقتة، فلا يمكن الاحتفاظ والتمتع بها لأكثر من دورتين اثنتين فقط.

وبعدها يجب على المهاجر التقدم لدائرة الهجرة والتجنيس للحصول على الجنسية الكندية، وإلَّا سيبقى في كندا لا يستطيع مغادرتها، وإذا غادرها سيواجه تحديات قانونية لعودته إليها إذا كانت إقامته الدائمة منتهية الصلاحية.
وهذا خلاف بعض الدول الأوروبية والتي توفر خيارات للمهاجرين بين الاكتفاء بالإقامة الدائمة مدى الحياة -من غير مدة صلاحية أو تاريخ انتهاء- وبين خيار التقدم للحصول على جنسية تلك الدولة.
يرى بعض القانونيين في كندا أنَّ المهاجر يمكنه الاحتفاظ بإقامته الدائمة مدى الحياة إن أراد، ولكن لن يخلو ذلك من اللجوء إلى المنظومة القضائية من خلال محامي دفاع مُختص لتحقيق ذلك الأمر.

٤) التعهد بعدم مغادرة كندا: من التناقضات الحديثة لمنظومة القانون الكندي البند الذي تم إضافته مؤخراً في طلب الحصول على الجنسية الكندية تحت اسم (النيَّة – Intention)، والذي يقر بموجبه كل مُتقدم بنيته البقاء في كندا وعدم مغادرتها بعد الحصول على الجنسية، وهذا البند أقره مجلس العموم الكندي في عام 2014م وأصبح قانوناً إلزامياً لا مناص منه.

الأمر الذي يُخالف الدستور الكندي جملة وتفصيلاً، فالدستور يكفل حق كل فرد يحمل الجنسية الكندية بالتنقل والعيش في هذا العالم أينما يشاء، وكيفما يشاء، ووقتما يشاء، من دون أي عائق أو حاجز أو إذن مُسبَق، ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا القانون تم تمريره في ظل حكومة المحافظين السابقة، واليوم يأمل الكنديون الجدد من الحكومة الجديدة إزالة هذا البند لتعارضه مع قانون الحريات في الدستور الكندي.

هذه بعض النماذج التي وسعني ذكرها فيما يخص تناقضات القانون الوضعي الكندي، لكن الجانب المُضيء لهذا الطرح، أنه من الممكن العمل على تعديل أو إلغاء تلك القوانين لو وجد مَن يهتم لذلك، فالأمر يحتاج إلى جهد ووقت ومال ومجموعات حقوقية تعمل جنباً إلى جنباً مع فريق من المحامين المختصين في سياسات الدولة مع صبر كبير على بيروقراطية النظام ودهاليزه.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد