نظّمت حياتي، أعمل يومين في الأسبوع لأتمكن بالكاد من تغطية نفقاتي، ثم أتفرغ باقي الأسبوع للكتابة التي تعود عليّ بما لا يغني ولا يسمن من جوع، لكنها على الأقل تسمح لي بأن أزاحم الآخرين وأقول أنا هنا، كنت أكتب وأراسل صحفًا ومجلات محدودة التوزيع، ورويدًا رويدًا بدأت أكتب لما هي أوسع انتشارًا.
لكن اللحظة الفارقة كانت عند اندلاع الحرب في البوسنة، ورغم أني بقدر الله كنت هناك في ساعتها الأولى إلا أن أحدًا لم يكترث لي، أخذت أرسل إلى صحف عربية شهيرة رسائل عن طريق الفاكس أخبرهم بأن الحرب اندلعت هنا، وأنه يمكنني تزويدهم بالتقارير والأخبار، ولكن وفقاً للعادة العربية لم يرد أحد سلبًا أو إيجابًا.
لم تقرر وسائل الإعلام العربية الاهتمام بقضية البوسنة والهرسك إلا بعد أن بدأت وسائل الإعلام الغربية تهتم بها وتشير إلى غالبية سكانها المسلمين، حينها فقط تصلك رسالة مرحبة بشدة بالتعاون معك، وما أن تبدأ في إرسال تقاريرك إلا وتفاجأ بأنها تتصدر الصفحة الأولى.
كنت أدرك أن قرارًا مثل هذا إنما هو قرار خطير وله تأثيرات سلبية عديدة على حياتي، لكنني اتخذته ومضيت فيه، وهو ألا أعمل صحفيًا موظفًا في مؤسسة ما، كنت أعتقد أنني حر، يعني يحق لي أن أختار ما أريد أن أكتب عنه، وألا يلزمني أحد بعمل لست على قناعة به، وألا أضطر أن أسير في قوافل المنافقين والكاذبين تحت سيف الوظيفة ومتطلباتها، وبالتأكيد هناك صحفيون شرفاء كثر استطاعوا أن يحافظوا على مبادئهم وأفكارهم رغم اضطرارهم للعمل موظفين في مؤسسات قد يختلفون فكريًا حتى مع ملاكها، لكن ربما ليس هذا في وسعي ولا أجيده.
أمضيت شهورًا في العمل بجريدة "الشرق الأوسط" السعودية الصادرة من لندن، ثم زارني في ألمانيا صديق سعودي عزيز ليعرض عليّ العمل في جريدة "الحياة" اللندنية والسعودية أيضًا، وكان ذلك بالنسبة لي نقلة نوعية وحلمًا لطالما تمنيت تحقيقه، فقد كنت أشتري "الحياة" وأجلس في مقهى محطة القطارات بفرانكفورت أدرسها صفحة صفحة ومقالًا مقالًا وسطرًا سطرًا لأعلم نفسي بنفسي.
إلا أن زميلًا من "الشرق الأوسط" اتصل بي من لندن وكنت حينها في العاصمة الكرواتية زغرب ليثنيني عن الرحيل منها إلى "الحياة"، ويغريني بتأشيرة زيارة في الحال إلى بريطانيا، ثم لقاء مع رئيس التحرير آنذاك الأستاذ عثمان العمير، ثم عقد دائم، لكني اعتذرت له بلطف شديد مقدرًا وساطته ومحاولاته، فحلمي بالعمل في "الحياة" كان أكبر.
وبالتوازي مع ذلك، بدأت العمل مع إذاعة "الشرق" العربية من باريس، ثم مع وكالة الأنباء الأمريكية WTN، التي كانت تزود تلفزيون السعودية بتقارير عربية، إلى أن انتقلت إلى MBC بنفس الصفة مستقلًا، ثم لاحقا مع الجزيرة أيضًا مستقلًا، والغريب أن زملاء كثراً من "الجزيرة" نفسها يعتقدون أنني بدأت العمل في هذه المؤسسة موظفًا ثم قدمت استقالتي لأعمل حرًا مستقلًا، واستمر ذلك حتى إبريل من عام ألفين وثلاثة عشر، حين توقفت عن تقديم برنامج "نقطة ساخنة"، فيما "يحكى أن" كان قد توقف بقرار غير معروفة أسبابه من قبل الإدارة.
أهم لحظتين يمكن أن تفرض فيها شروطك هي لحظة اندلاع الحرب ولا يوجد في المنطقة مراسل عربي سواك، واللحظة الثانية عندما تنتهي الحرب وتكون قد أنجزت ما أنجزت، حينها يتعين على المؤسسة التي عملت معها أن تكافئك وأن تعرض عليك الانتقال إلى مقرها الرئيسي والتعاقد معك، وقد أضعت باختياري اللحظتين.
كنت أتفهم المساوئ التي يمكن أن يتحملها الصحفي المستقل، الذي يتعامل بنظام القطعة مع المؤسسات، فهو لا يتقاضى إلا على ما ينجز، فما بالك إذا كان الإنجاز المطلوب إنما هو في مناطق أزمات وحروب؟ فأنت قد تقضي يومًا أو يومين وربما أكثر بحثًا عن مسألة ما ثم تفشل في تحقيقها لظروف خارجة عن إرادتك بفعل معطيات الحرب أو الأزمة، إلا أن كل التكاليف تتحملها وحدك، ومن ثم فلا استقرار مادياً أبدًا يمكن أن يتحقق في ظل هذه الظروف، إلا أنني كنت راضيًا عن اختياري سعيدًا به، ولم أتخيل أن هناك ضريبة أخرى يجب أن تُدفع.
لاحقا اكتشفت أن ضريبة إضافية تدفعها حين تختار – بالإضافة إلى ما سبق – أن تكون مستقلًا في فكرك بالتمام والكمال، لا تنتمي إلى حزب أو جماعة أو تيار أو مؤسسة، لك أفكارك الخاصة التي تدافع عنها، وبغض النظر عن صلاحيتها، وبغض النظر أهي جيدة أم سيئة، إنما هي ما اخترته لنفسك، ثم تنصرف إلى ممارسة مهنتك في صمت، لتكتشف أنك في هذه الحالة إنما أنت في مهب الريح، بل في صدارة عواصف قوية قادرة على اقتلاعك والإطاحة بك.
عندما عدت إلى مصر بعد الثورة وبدأت الاحتكاك بالوسط الإعلامي هناك، اكتشفت أنني لن أستطيع أن أندمج وأمارس عملًا ما لم أكن منخرطًا في مجموعة ما، ليس بالضرورة مجموعة ذات توجه فكري، المهم مجموعة، ترتبط بها وترتبط بك، تأكل وتشرب وتسهر معها، وتتبادل النميمة، مجموعة تدافع عن مصالح بعضها البعض عن حق أو باطل.
وحين تفقد هذه المجموعة فأنت لا تخسر فقط من يدافع عنك أو يجلب لك المنفعة، ولكنك تتعرض لما هو أسوأ، فتصبح متهمًا من كل الأطراف، فلا أحد يصدق أنك حر مستقل، لا ترتبط بجهة ما ذات أفكار أو ذات مصالح، كل طرف يعتبرك أشبه بخلية نائمة تابعة لطرف آخر، ويبدأ التشكيك فيك وفي نواياك وفي سلوكك، وهكذا تجد نفسك في الفراغ، لا كتف تستند إليه وليس في مواجهتك إلا عيون مشككة.
"أنا اليوم حزين قليلًا، طارت طيوري، كتبت لك إن لم تكوني قد نسيتِ، أنه يوجد هنا أسراب من طيور السنونو، رسمت لك إحداها مع صغارها، من المكان الذي أعمل فيه يمكنني أن أرى بعض الأعشاش، وقبل شهرين خرج الصغار من البيض، في العش الأقرب كان هناك أربعة منهم، أولًا كانوا صغارًا جدًا، أربعة رؤوس صغيرة كانت تترقب من العش طوال اليوم، كانت صامتة لا تتحرك، أراهن أنها كانت تفكر دائمًا في شيء واحد فقط، متى ستأتي العصفورة الأم بالطعام؟ كثيرًا ما كانت الأم تحط، تقف للحظة على حافة العش، تضع الفتات في مناقيرهم وتطير ثانية، كنت أنظر إلى كل ذلك طوال اليوم وقلبي كان مفعمًا بالأمل".
قرأت لي "ليلى" هذه الرسالة التي كتبها والدها "علي عزت بيغوفيتش"، وأرسل بها من سجنه إلى حفيدته "سلمى" في الثاني من ديسمبر عام ثلاثة وثمانين، السنونو وأي طائر آخر إنما يرمز إلى الحرية، حرية أن يختار المخلوق إلى أي اتجاه ينطلق، ولذا كان يرقبها علي بشغف من زنزانته، وهو الذي خط في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" بأنه إذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقًا، فإن الألوهية لا تكون ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه. ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق. الحرية ليست نتيجة ولا نتاجًا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. فالله لا ينتج ولا يشيد، إن الله يخلق..!
ولذا فإن الدكتور "عبدالوهاب المسيري" وهو يتحدث عن فكرة "علي" يقول: "إن الإنسان قد ينجح آجلًا أو عاجلًا في تشييد صورة مقلدة من نفسه، نوع من الإنسان الآلي أو مسخ، شيء قريب الشبه بصانعه. وهذا المسخ الشبيه بالإنسان لن تكون له حرية، سيكون قادرًا فقط على أن يتحرك في إطار ما بُرمج عليه. وهنا تتجلى عظمة الخلق الإلهي، الذي لا يمكن تكراره أو مقارنته بأي شيء حدث من قبل أو سيحدث من بعد في هذا الكون".
هي الحرية إذن التي ناضل علي وغيره كثر من أجلها، والتي من أهم تجلياتها "الاختيار"، أن تكون لك الحرية المطلقة في أن تختار ما ترغب فيه، وينسى الناس وهم يتغنون للحرية وحقهم في الاختيار أنهم سيدفعون ثمن خياراتهم في كل الأحوال.
قرر أن تكون مستقلًا أو تابعًا، قرر أن تكون مع هذه المجموعة أو تلك، مع هذا التيار أو ذاك، أو مستقلًا عنهم جميعًا، تتلقى حجارة الكل، ولا أحد يدافع عنك، قرر كيفما تريد أن تقرر، لكن كن مستعدًا لتدفع ثمن هذه الخيارات، ألم تسعَ للحرية؟ ها هي الحرية إذن.. لذيذة ومثيرة لكنها مجهدة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.