شغلني سؤال لبعض الوقت يتعلق بخطيئة الشرك بالله التي لا تُغتفر، حيث يقول الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.. ﴾ (النساء، آية 48).
ثم جال بخاطري هؤلاء الذين يدافعون عن الحق وهم لا يؤمنون بالله، مَنْ يحنون على الفقراء والبؤساء ويسارعون في فعل الخيرات ليس ابتغاء وجه الله تعالى أو طلبا في المزيد من الحسنات.. وإنما من أجل الإنسانية، أو لانفطار قلوبهم الرحيمة على الضعفاء، أو من أجل مستقبل أفضل لأولادهم، أو حتى تخليدا لذكراهم بعد وفاتهم.
فأشفقت عليهم كيف لا يغفر لهم شركهم أو عدم إيمانهم بالله برغم ما قدموا من خير إذ يقول الله تعالي:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)﴾ (الكهف).
فسألت نفسي: إذا كان الله هو الرحمن الرحيم، ونحن لا نمثل شيئا في ملكه الواسع فهو الغني الحميد سبحانه وتعالى، فلماذا يحبط أعمال من يكفر به في الآخرة ما دام يسارع في فعل الخير ويساعد البائس والمحروم؟ فهذا الكفر لن ينقص من ملك الله شيئا.
وذات يوم كنت اصطحب ابني (وكان في الرابعة آنذاك) إلى أحد المراكز التجارية في القاهرة، وكانت المحال تعج بالبضائع والمشترين والمارة، وفجأة وأثناء حديثي مع أحد البائعين لم أجد ابني بجانبي، فقد تاه وسط الحشد الهائل!
انتابني الرعب والفزع عليه وأخذت أبحث عنه في كل مكان لأني كنت أتوقع المستقبل المظلم الذي كان ينتظره إذا ما فقدته إلى الأبد، ولكن لحسن الحظ وجدته بعد دقائق يبكي وسط الجموع، فأمسكت به بشدة وأنا أذرف دمعًا سخينًا وقلت له بحزم: "ليس مسموحا لك بتاتًا أن تتركني وتشرد.. يجب أن تتبعني وإلا سألحق بك عقابًا عنيفًا، إني أنذرك.. هل سمعتني؟"
وفي هذه اللحظة عند تفوهي بكلماتي تلك.. وجدت الرد على سؤالي الكبير!
فالله يحذرنا من العقاب.. لا لينتقم لنفسه، ولكنه يحذر مَن يلحق أذى بالآخرين ويلحق أذى بنفسه أيضًا، إذ يقول في كتابه: ﴿..وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ (البقرة، آية 57).
فهؤلاء يظلمون أنفسهم بلا أدنى شك، فأنت كلما ازددت قربًا من الله ومعرفة به، تعاليت على مجريات الدنيا، وانفتح أمامك عالم لا تراه بعينيك ولا تلمسه بأطراف أناملك، ولكنك تحسه بكيانك فتزداد بصيرة وعلمًا وارتقاء، وإذا حرمت نفسك من هذا النعيم ظلمتها.
فكيف يمكن أن يعيش المرء حياته وهو ناكر ربه؟ وهل تستقيم له الحياة وهو لا يسير على منهج الله؟ وكيف يواجه المحن والمصاعب؟ وما يكون حاله حين يضع رأسه على وسادته وهو يعلم أنه قد لا ينهض غدًا؟ فلا شيء على وجه الأرض يستحق أن تضع ثقتك الكاملة فيه، لأنه مهما بلغ من قوة ومتانة فهو مؤقت وزائل.
ومرت أعوام، وأثناء تصوير فيلمي الوثائقي (هل تؤمن؟) -الذي كان يدور محوره حول مصداقية الإيمان- التقيت دكتور (ماثيو وولري) رئيس وحدة علم النفس بالجامعة الأميركية بالقاهرة آنذاك، والذي كان أيضا أحد المتحدثين بالفيلم، فسألته عن رأي العلم فيما يدفع بعضنا لإنكار الله.
أجابني -على الرغم من إيمانه العميق- بأن علم النفس الحديث ينص على أن عبادة الله أشبه بعُكَّازٍ يستند عليه الضعفاء غير القادرين على مواجهة المحن، أما من ينكر الله فلا يحتاج لتلك المعتقدات القديمة لأنه قوي بدونها، ويستطيع أن يواجه الحقائق دون رتوش، ولتوضيح موقف العلم شبَّه المؤمنين بأطفال تائهين أرهقهم البحث عن أمهاتهم.
وبعد انتهاء الزيارة عدت وأنا أسترجع حديثي معه، وجال بخاطري وصف علم النفس الحديث لمن ينكر الله بالقوة، وتساءلت هل القوة التي يتحلون بها مُطلقة.. مع الوضع في الاعتبار أن جرثومة -لا نراها من شدة صغرها- قد تفتك بأي امرئ منا مهما بلغت قوته؟ ثم دار بخلدي تشبيه المؤمنين بالأطفال التائهين، فوجدت أن هذا التشبيه لا ينفي وجود الله، بل على العكس؛ فإن بحث الطفل عن أمه يؤكد وجودها.
وبعدما كنت أتساءل لماذا لا يغفر الله الشرك.. أصبحت حزينة لأجل هؤلاء، لأنهم يختارون بكامل إرادتهم هذه الحياة الزائفة التي مهما بدت برَّاقة إلا أنها تحمل في طياتها الضيق والشدة.
يقول الله تعالي في كتابه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.. ﴾ (طه، آية 124).
الحياة من دون الله مذلة، لأن من لا يسأل الله يسأل الآخرين..
الحياة من دون الله مرعبة لأن كل ما يمكن أن يبعث فيك الطمأنينة من صحة وثروة وعزوة مؤقت وزائل.
الحياة من دون الله فارغة لأن كل أهدافك فيها لحظية.
الحياة من دون الله كئيبة وقاتمة لأن كل شيء جميل ينتهي في نهاية المطاف إلى تراب
الحياة من دون الله تعد جهلا لأنك لن تدرك الحكمة من وراء رحلة حياتك..
الحياة من دون الله تضليل لأنك لن تعرف دورك فيه
وأخيرا.. الحياة من دون الله اختيار!
من المؤكد أن الغرض من رحلة حياتنا هو معرفة الله، وإذا أخفقنا في تحقيق ذلك تفقد الرحلة معناها ويكون الوضع أشبه بمن يريد التوجه إلى الولايات المتحدة فيقطع تذكرة إلى الصومال!
ولأن الله يحبنا.. يحذرنا من أسوأ كارثة وخسارة يمكن أن تلحق بكل منا.
فخطيئة الشرك بالله لا تغتفر.. من أجل الحب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.