بلقاء الأصدقاء يتجدد العهد وتعود الذكريات القديمة، أي نعم قديمة! أنتظر لحظة لا تصدق أيها القارئ فهي ليست قديمة جدا كما تصورت، فمقارنة بأصدقاء أبي وجدي فنحن أبناء الحاضر ولكن يبقى أثر السنوات غالبا في كل حنايا الروح، كما أن المدة التي غبتها عن بلادي كانت هي سيدة الموقف في أي لقاء والذي سيتلاشى فورا عقب أول معانقة وتلك المصافحة الحارة التي تزيل الوجع.
من طبيعة المجتمع المصري الريفي أن الناس فيه مشغولة ببعض كثيرا؛ بسبب الترابط الآلي كما يقول علم الاجتماع، ويحاولون باستمرار أن يعرفوا تفاصيل حياتك وما حدث أولا بأول، كقناة إخبارية متدفقة، لهذا فأنا أعتقد أن كل ريفي في داخله صحفي شغوف بمعرفة الحقائق التي لا تخلو في كثير من الأحيان من المبالغات البلاغية أو "الفرقعات" الإعلامية التي اعتادت عليها المنطقة العربية في الفترة الأخيرة وخاصة في صحافة أحمد سعيد والوصول إلى بيت العدو.
في كل لقاء أحاول أن أعرف ما الذي حدث في غيابي؟ وما هو الذي تغير؟
كنت كمن هبط على القمر ولكني كنت كمن زاره قبل ذلك.. وتقريبا الإجابات واحدة على الدوام "لم يحدث شيء" البلد لم تتغير، فالمعاناة هي المعاناة ولكنهم اتفقوا على شيء واحد فقط، وهو تراجع مفاهيم الثورة من حرية وعدل ومساواة وديمقراطية وأي مسميات من هذا القبيل، هذه المعاني يا سيدي القارئ قد تبخرت تحت شمس الواقع الأليم.
وطول السؤال الذي طرحته لم أجد طوال رحلتي من يفتح له الباب ويقول له تفضل، فالمصري الذي ظلّ أكثر من 3 سنوات يطالب بحقوق قديمة لم يجبه أحد فجاع هو وأسرته بل وشارعه وقريته ومدينته التي ظلت كما هي، للأسف اعتقد الناس أن الثورة ستأتي بكل شيء، ولكن لم يتحقق شيء سوى أن مهابة الوزير والمسؤول المصري باتت غير مقدسة كما كانت، مع محاولات البعض عودتها كطقس فرعوني مقدس يجب عودته، فمنذ عهد الفراعنة تقريبا لم تمس تلك العلاقة بين الراعي والرعية وظلّ المسؤول أقرب إلى الكاهن لا يستطيع أحد أن يفهم طلاسمه التي يتحدث بها، وظلّ المصري الذي لم يستنِر هو المريد الذي يتقلب في يد شيخه فلا ينفك عن التوجه في أي اتجاه يريده شيخه العارف بخفايا الأمور والماورائيات الغامضة ما دامت جلبت له الراحة والهناء والخير.
وفي طريق العودة إلى تجديد مياه الصداقة مع كمّ من الأصدقاء الذين عشت بينهم في القرية وكانوا عون مرحلة التأمل والقراءة وأيضا اللاعمل على وزن اللاحرب واللاسلم التي كانت شعار مرحلة ما قبل حرب أكتوبر..
أخبروني أن الوضع بات مجالا رحبا للانتقام، فيكفي أن أرسل ورقة للأمن أخبرهم فيها أنك تحمل نوايا إرهابية فقط ثم لتسقط في يد متشككة ليكون وضعك أفضل بقليل من وضع نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا إبان نظام الفصل العنصري، وهذه من المؤشرات الخطيرة جدا فحين تُستخدم السياسة كسبيل إلى تخليص المعارك الشخصية فثق تماما أن المجتمع في تراجع مخيف ومقلق، ضف إلى أن الدور الحقيقي للسياسة ليس كبتا وحنقا للآراء بل كوسيلة مهمة للارتقاء بالمجتمع والوقوف عاليا بتلك الآراء المختلفة لنرى سفح الحقيقة فيختفي وينتقل البلد من أهواء الأشخاص الضيقة إلى رحابة الطبيعة.
الغريب في كل هذا الأمر أن الناس ما زالت تحاول أن تعيش رغم تضخم الأسعار الكبير الذي نعيشه وأن مصر برغم كل ما فيها إلا أن الوضع مستمر في ديمومة جدلية لا يستطيع أحد أن يضع لها معادلة ثابتة يقيس عليها كقراءة معيارية مستقرة فما زال الناس يذهبون إلى حقولهم وإلى وظائفهم، وما زالوا يمتلكون حس الفكاهة برغم الحزن المحيط بهم من كل جانب، لا أعرف كيف، ولكن لو كان ما حدث -الذي مرّت به مصر في الأربع سنوات الأخيرة- لشعب آخر لانهار وانقرض وانتهى كل شيء ولكنها إرادة الحياة التي تسكن المصريين ورغبة الخلود.
فعلا كما ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء أو هكذا قال المتنبي، بقي عم بطاطا ضارب "تطنيشه" كما يقول علي الحجار في أغنيته التي كنت أسمعها في ثورة يناير/كانون الثاني -إذا كان أحد يذكرها بخير- ساكتا علشان رزقه ورزق عياله مع العلم أنه لمّا صاح صيحة جريئة فتح عكا في خطوة واحدة فقط من قدمه الصغيرة لا أعرف كيف، وأشياء أخرى يمررها أو "يعديها" بالعامية المصرية بمزاجه حتى لا تشتعل أم الدنيا التي ضاقت بنا كمصريين وعمار يا مصر وبقي لنا حلقة واحدة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.