#وجدتُ_حلاً | مُحمَّدٌ النبيُّ.. أيديولوجيا الطرحِ وفلسفةُ التنفيذ

التغييرُ لنْ يكون سهلًا والتضحياتُ ستكونُ قاسيةً بل مُرَّة أحيانًا؛ لذلك كان الثمنُ رضا الله والجنَّة التي عجزت عقولُ الناسِ عن تحديد ماهيتها أو استنتساخها.. أدرك الصحابةُ الأوائلُ مع النبيِّ محمدٍ أنَّ فراق الأرض والأهل والمال والعصبةِ والقبيلة حتميٌّ مع تهديد دولة المصالح والمنافع، كما علَّم النبيُّ أصحابه أنَّ الهدف هو العمقُ وليس السطحُ أبدًا..

عربي بوست
تم النشر: 2016/01/07 الساعة 05:04 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/01/07 الساعة 05:04 بتوقيت غرينتش

قطعًا لم تكنْ الإشكاليةُ لدى قريشَ فيما فعله محمدٌ القُرشيُّ المكيُّ من هدمِ منظومةِ الترتيبِ الهَرميِّ البشريِّ أو كسرِ أيديولوجيا الدينِ العجوي فحسبْ! بل كان عمقُ الأزمةُ في استطاعة هذا الأربعينيِّ الرمزِ كسرَ مفهوم الغُربةِ في الوطنِ وتخطّي أزمة الكرامةِ التي لم ينلْها نبيٌّ في وطنه، إذْ كان على النبيّ الجديد أنْ ينقل المفهوم في عيون أصحابه من قداسة الوهم ومُربَّعِ الجُغرافيا إلى بُؤرة الدين الواسع "جغرافيًّا"؛ ليمحور بذلك حياة أصحابه في مفهوم العالميَّة حين تتخلى عنهم جغرافيا الوطن والحدود!.. كان عليهم أن يُدركوا أنَّ الإنسانَ أبقى من حُدود ترابه وأنَّ الفضاءَ يتَّسعُ كلما كتبتَ أنت سطرًا فيه..

الميلادُ

أدرك النبِيُّ الجديدُ طبيعةَ الواقعِ الذي جاءت دعوتُه فيه، كما أدرك الكيفيةَ التي سينتهجها في مُقاومة شبكةٍ راسخةٍ من المصالحِ المشتركةِ للأعداء الافتراضيين، فكانت دعوتُه لكل فئات عصره ومجتمعه لا تستثني أحدًا ولا تستبعِدُ أحدًا.

كانت دعوتُه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ- تلمسُ النقطةَ الإنسانيةَ المشتركةَ التي يتفقُ عليها كلُّ البشرِ مهما اختلفت آراؤهم وتوجهاتُهم ومهما صعدت أو نزلت أطماعُهم وطبقاتُهم الاجتماعية.. لمس الأربعينيُّ مفهوم "الإنسان" كل الإنسان، كما أعلن بوُضوحٍ أنَّ دعوته لا تُعنصرُ أحدًا ولن تنزع هيبةً من أحدٍ طالما اتفقت وقيمَ الإنسان التي سبق ذكرها والتأكيدُ عليها.. كانت أولَ الفيوضات الربَّانيةَ سُمعتُهُ الحسنةُ التي اكتسبها في الوسط الاجتماعيِّ الذي عاش فيه والتي كانت حقيقيَّةً لا تشبهُ بالطبع الشامخَ النزيهَ في مصرَ أو ملكَ الإنسانيَّةِ في الخليج العربيِّ، لم تكنْ بلاستيكيَّةُ مُستهلكةً بل كانت واقعيَّة غيرَ مُسيَّسةٍ أو نفعيةٍ.

رُبَّما سهَّل ذلك من قبول الناس له ولدعوته ورُبَّما كانت أيضًا سببًا في سلسلةٍ طويلةٍ من الحسدِ والكراهية التي لاقاها من أعدائه.. انطلق عليه الصلاة والسلام في محيطٍ صغيرٍ نسبيًّا يكسب كل يومٍ أرضًا جديدة وإنْ قلَّت مساحتها أوبهظت تكاليفُها.. اشتغل ـ كما قلتُ في السابق ـ على المساحة المُشتركة التي ستهزم أيَّ حُجَّةٍ يرميه بها أعداؤه.. فكان رفضُه قاطعًا لمحاولة شراء دعوته بالمال والجاه والسلاح والأرض والشهرة والنساء.. أعلن بوضوحٍ أنَّ دعوته جاءت لاستثمار الإنسان.. هكذا ببساطةٍ لسنا عُنصريِّين ولسنا سُوقيِّين.


آليةُ النجاح

لم يكنْ غريبًا انضمامُ طبقاتٍ اجتماعيَّةٍ مختلفةٍ إلى النبيِّ الجديد.. أبوبكرٍ الصديق وبلالُ بنُ رباح.. عُثمانُ الرقيقُ وعُمرُ الجبَّارُ.. الكلُّ في إناءٍ واحدٍ يصهرهم جميعًا ليُخرِج ثوبًا إسلاميًّا جديدًا على شبه الجزيرة والعالم كله.. لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى والعمل الصالح.. كلُّكم لآدمَ.. وآدمُ من تراب.

كان من الطبيعيِّ جدًّا أنْ تنجحَ الفكرةُ في ميدانِ التحريرِ وغيره من ميادين الربيع العربيِّ ؛ لأنَّ الإنسانَ هو المستهدفُ وليس جنسُه أو لونُه أو أيديولوجيتُه، وكان طبيعيًّا جدًّا أن يتعثَّر الرفاقُ المختلفون بعد انطفاء وهجها؛ لأنَّ الكعكةَ أكبرُ من أن يلتهمها أو يحتكرها أحدٌ..
كان النجاحُ في مكَّةَ وميادين الربيع العربيِّ مُفاجئًا وجميلًا وكان السقوطُ في طُليطلة وغرناطة وقشتالة والقاهرة وبني غازي ودمشقَ وعدنَ مُتوقَّعًا.
ببساطةٍ كان الإنسانُ وراء النجاح بينما دفعتْ الأنانيةُ الأيديولوجيةُ إلى كلِّ هذا الفشلِ.

البشارة

التغييرُ لنْ يكون سهلًا والتضحياتُ ستكونُ قاسيةً بل مُرَّة أحيانًا؛ لذلك كان الثمنُ رضا الله والجنَّة التي عجزت عقولُ الناسِ عن تحديد ماهيتها أو استنتساخها.. أدرك الصحابةُ الأوائلُ مع النبيِّ محمدٍ أنَّ فراق الأرض والأهل والمال والعصبةِ والقبيلة حتميٌّ مع تهديد دولة المصالح والمنافع، كما علَّم النبيُّ أصحابه أنَّ الهدف هو العمقُ وليس السطحُ أبدًا.. الغايةُ هو أن ننقل البشرية -لا مكَّة- فحسب من مستنقع الضيق والقيم غير الأخلاقيَّة إلى رحابة الإسلامِ الإنسانيِّ الذي يساوي بين كلِّ الناسِ وينشرُ المودَّة بين كلِّ الناس ويبني الإنسان في كل الناس لا في قبليةٍ أو مجتمعٍ نُخبوِيٍّ فحسب!.. سار المسلمون تحت قيادة النبي وهم يطبقون فعليًّا مفهوم عالمية الدين والحدود التُراب، وفي الوقت نفسه يحنُّ كلٌّ منهم لنبتتِه الأولى التي تركها في وطنه لعلَّ كرامتَه المسلوبةَ في وطنِه تكونُ يومًا.. نجح النبيُّ بعد التعليم الربَّانيِّ في أنٍ يُطلِق سهامًا بشريَّة تمشي على الأرض بكل حيويةٍ ونشاطٍ تعرِفُ غايتها وتتشرَّبُ منهجها وتُدركُ أنَّهم إذا نجحوا في بناء الإنسانِ فكلُّ ما بعده ـ من مالٍ ووهجٍ واحترامٍ إلخ..، هيِّنٌ..

إشكاليَّةُ التنفيذ

تظلُّ المشكلةُ الرئيسةُ في ضمانِ تنفيذِ هذا المنهجِ السابقِ في أنَّ الأمورَ دائمًا تحتاجُ فيه إلى مكاشفةٍ وعدم مجاملة.. تحتاجُ إلى أن نعرفَ أين نقفُ وما الذي سنقدِّمُه للناس.. نحتاجُ إلى أن نلمسَ فيهم هذا الوترَ المُشتركَ الذي يقنعُ عقلَهم ومصالحَهم أحيانًا.. لا يحتاجُ هذا المنهجُ أبدًا إلى انغلاقٍ حزبيٍّ وتوهمٍ أجوفَ بأنَّ أحدًا حارسٌ على هذا الدين أو آيةُ الله على الأرضِ!.. أو أنَّنا نسيرُ على الطريق الصحيح طالما نُعذَّبُ أو نسجنُ؛ فالإنسانُ لم يُخلقْ فقط ليُعذَّبَ ويُسجَنُ! ولا تحدثني عن ضريبة الدعوة كُلَّما حدثتك عن تحديث البوصلة ومراجعةِ المنهجِ.. ليست هناك مُشكلة أبدًا في أن تمسكَ بإحدى يديك غصن زيتونٍ بينما تنشغل الأخرى بالكلاشينكوف! وليست مُشكلةً في أنْ تُضيِّق خلافنا على الموسيقى بينما يمكنك أنْ توسِّعَ على خدمةِ الإنسان.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد