"لا تصف أي شخص بأنه سعيد إلى أن يموت".. أرسطو
الشقاء هو الأصل في هذا الوجود، أما السعادة فشيء عارض وعابر، وعلى الإنسان أن ينطلق من نفسه لإثبات هذه القاعدة بالصواب أو الخطأ، وحتى ندعم هذه القاعدة أكثر نعود إلى بدايات رحلة الإنسان في هذا الوجود، وقصته في الكتب المقدسة، حيث تتفق جميعها على أن آدم وحواء، عليهما السلام، طُردا من حياة النعيم والسعادة في الجنة، بسبب مخالفتهما لأوامر الله سبحانه وتعالى، والمخالفة، كما هو معروف، تستوجب العقوبة، وقد كانت العقوبة طردهما من الجنة، وقذفهما إلى رحلة العذاب والشقاء في الأرض..
يصور القرآن الكريم هذه اللحظة تصويراً دراماتيكياً، يمتزج فيها اللوم والعتاب بالشفقة والعطف، حيث لم يأتِ الطرد مباشرة، أي اخرجا من جنتي ونعيمي، بل جاء بعد تذكيرهما بالأمر الأول، وخاطبهما بأنكما خالفتما هذا الأمر، مما يستدعي إنزال العقوبة الإلهية بكما، والعقوبة تتمثل في الطرد من الجنة ونعيمها الأبدي إلى حياة الأرض وقسوتها، يقول الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}. سورة البقرة.
ولأن الإنسان كائن مركب من جزءين اثنين، جزء رباني متمثل في الروح، وجزء أرضي يتمثل في الطين، يتطلع الأول إلى العلو والسمو، ويحاول الثاني أن يشبع رغبات الجسد ومتطلباته، من هذه الثنائية التركيبية يتولد الصراع، ومن هذه الهشاشة التكوينية تتولد الشقاوة والسعادة، وبما أن الإنسان يعيش في العالم الأرضي تكون الغلبة للجزء المادي الذي يصبو، كما أشرنا، إلى الإشباع من الرغبات والأهواء الجسدية، ومن المتع الجنسية وحب التملك والتسلط.
سيجموند فرويد رائد التحليل النفسي لديه تفسير يتفق مع ما ذهبنا إليه سابقاً، حيث يرى بأن الطفل يعيش حالة سكونية في بطن أمه حيث الطمأنينة والسكينة، وبمجرد حدوث "صدمة الانفصال أو الميلاد" تبدأ رحلة العذاب والشقاء في العالم الخارجي الجديد.
ويفسر "أوتو رانك" صدمة الميلاد هذه، على أنها صدمة نفسية رهيبة في بداية حياة الفرد، لأن الانفصال بالميلاد، أي انفصال الجنين الذي كان داخل الرحم جزءاً من الأم، يعيش في سعادة أساسية.
ويكون الميلاد بمثابة عملية طرد وانفصال، وهذه أقصى خبرة يجتازها الإنسان، ويخشى الفرد أن تتكرر عملية انفصال أخرى في مستقبل حياته، ويعتبر الميلاد على هذا "القلق الأوليّ" الذي يطمس حالة "السرور الأوليّ" في مرحلة ما قبل الميلاد.
لحظة الطرد الأولى هي لحظة الانفصال الأولى، فإذا كانت اللحظة الأولى طمست حياة السرور الأولى، فإن الثانية قد طمست حالة السرور الأولى، وإذا كانت الأولى اقتضتها مخالفة الأوامر الربانية، فإن الثانية تقتضيها الطبيعة البشرية.
بين لحظة الميلاد -الحركة- وما قبلها -السكون- ينشأ الصراع بين إرادة الفرح وغريزة الموت، عن هذا الصراع يعلق المفكر السوري "مطاع الصفدي" قائلا: "إن فرويد قد حدد صراع العضوية الحية بين إيروس "إرادة الفرح" وغريزة الموت، ذلك أن غريزة الموت هي الميل نحو السكون، والسكون لا يتحقق إلا في الارتواء، والارتواء عابر ومؤقت".
وبما أن الارتواء مؤقت وعابر، فكذلك الفرح في حياة الإنسان، فقد يفرح الإنسان منا عندما يحقق هدفاً أو نجاحاً ما، ولكن تلك الفرحة لا تستمر إلا لحظات معدودات، لتبدأ بعد ذلك رحلة الألم والبحث عن المفقود، لأن من طبيعة الإنسان النّهم والعمل على تحقيق الاعتراف.
قد يرى البعض ممن حققوا طموحهم، ووصلوا إلى القمة بأن المتعة الحقيقة في هذه الحياة، تكمن في ذلك الألم الذي صاحب الرحلة الطويلة والشاقة، ذلك أنّك عندما تصل إلى الهدف تجد كل شيء مملاًّ، ولا قيمة له في الآن نفسه، وفي ذلك يقول الروائي الكولومبي الكبير "غابرييل غارسيا ماركيز" في وصيته الأخيرة مخاطباً محبيه وقرّاءه: "تعلّمت منكم الكثير أيها البشر.. تعلّمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سر السعادة يكمن في تسلّقه".
وبالتالي، فالسعادة تكمن في الألم الناتج عن ركوب أمواج الخطر، والرقص على حبال المخاطر، والنزال مع قوى الشّر، من أجل استكشاف القوى المجهولة في الذات، واستخراجها إلى العلن، لتحقيق الرغبة في الاعتراف، لأن الحياة، في المُحصّلة، ما هي إلا رحلة لإثبات الوجود، وتحقيق الحلم، يقول المفكر السوري مطاع الصفدي "إن السعادة ليست جائزة سكونية للناجين من وعثاء الألم والنقص والمرض، ومن إحباطات الآمال المغدورة، لكن السعيد هو الذي يختار العيش في عين العاصفة ذاتها، ويتجنّح بأهوالها ذاتها. لا يتجنب بأسها عليه، بل يتبناه ويضاعف من شدته، لكي يكتشف في ذاته منهل الإمكانيات المجهولة. يشتق من ضعفه أسباباً لذلك النوع الخاص من القوة التي لا تنتسب إلا لذاتها"، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن السعادة ما هي إلا "انخراط إرادي في عنف الاقتدار. إنها ارتداد واع كلي إلى صميم المعاناة دونما حساب لمنفعة أو ضرر".
بمعنى آخر، تتحقق السعادة عندما يحدث انسجام بين الرغبة.. الرغبة في الاعتراف، والهدف.. الهدف الذي يعود بالخير والنفع العام على عموم البشرية.
لذلك كله، يطرح البعض هذا السؤال.. لماذا تجد حتى أغنى أغنياء العالم مهموماً حزيناً يتألم داخلياً؟
مفهوم السعادة:
قبل الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من بيان معنى السعادة، فالسعادة في أبجديات الفلسفة الغربية تتلخص في اللذة والرضا المادي والوجودي، أما الشقاء فهو الألم وكل ما يقف عقبة في تحقيق الرضا، بمعنى أن كل ما يُحصّل اللذة والرضا فهو سعادة، وكل ما يجلب الألم والسخط يعتبر شقاءً.
ما يؤاخذ على هذا المفهوم، أنه لا يولي أهمية للمآلات، أي مآل اللذة أو الألم، فكم من لذة أورثت لصاحبها ألماً، فصارت بقدرة قادر شقاءً، وكم من ألم أورث لذة، فأدى في الأخير إلى السعادة.
إذن، لا يمكن اعتماد اللذة والألم مقياساً لتحديد مفهوم السعادة.
نعود إلى السؤال المطروح سابقاً، ونعيد صياغته بعبارة أخرى وهي.. أن الغني مع أنّ كل شيء متوافر في حياته، إلا أنه يعيش عذابات نفسية تؤدي به -في بعض الأحيان- إلى هدم ما بناه، أو إلى الانتحار، أو إلى الموت البطيء بالإدمان على الممنوعات.
ذلك أن السعادة في هذا الوجود ليست مكتملة، والإنسان في الغالب، يتجه نحو تلبية رغبات الجسد ومتطلباته فقط، أما الغذاء الروحي فقلما يهتم به، ويقتفي طرقه وسبله، وخاصة في هذا الزمن الصّعب، لذلك تجده، أي الإنسان، مهموماً مغموماً، يعطي المستقبل جل تفكيره، ويترك لحظته الآنية فريسة للحزن والتأسف على ما فات، فلا يعيش حاضره، ولا يبني مستقبله، لأن المستقبل سيكون صورة أخرى للحاضر.
هذه القاعدة، كما أنها تسري على الأفراد، فهي تسري أيضاً على الجماعات، فالجماعة العالمية التائقة إلى عالم يسوده السّلام والأمن والعدل بين البشر، تئن تحت وطأة الحروب والفقر والأمراض والمجاعات والأوبئة الفتاكة.. وتعيش لحظات الألم والمأساة أكثر بكثير من حياة الجذل والمسرات.
ليس معنى هذا الكلام هو الركون في أحضان الشّقاء، والرضا بحياة البؤس، بل هو توصيف للحال كما هي، وعلى الإنسان أن يجدّ ويجتهد من أجل التخفيف من حياة المعاناة، ويقلل من ساعات المأساة، ويقتطع للجذل دقائق من ساعات الألم، وللفرح أياماً من سنين الشقاء.
بناءً على ما سبق، يصبح الركض وراء السعادة هو ركضٌ خلف وهم أو جري نحو سراب، وعلى الإنسان أن يحافظ على طاقته، وأن يوفر سعيه ذاك، من أجل التخفيف من وعثاء الألم، وعناء الوجع لا أكثر، وهذا ما قصده فرويد عندما قال: "نحن نسعى لأن نتجنب الألم أكثر من سعينا لأن نجد السعادة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.