في طفولتنا البعيدة عندما كان كل ما حولنا بسيطاً بعيدا عن ضوضاء التكنولوجيا، كان يثيرنا صوت التلفون القديم، فنتسابق لنرفع السماعة ونرى من على الهاتف؟ فربما تكون الجدة تعطر مسامعنا بكلامها الجميل ودعواتها الرائعة أو أي شخص يسأل عن الأب والأم، كانت ألعابنا إما من صنع الأم تخيطها وتشكل لنا دمية وتحشوها ببقايا القماش ونحن نتحلق حواليها بعيون تبرق فرحاً ونتشاجر فيما بيننا على تسميتها.. وترسم الأم اللمسات الأخيرة وتعطيها لمن وعدتها.
أما محل الألعاب وهو الفردوس البعيد الذي ننتظره في الأعياد، فإما أن نذهب إليه أو يحمل لنا منه ما تمنينا، أي تقريبا مرة أو مرتين سنوياً، ولكن تلك الدمية التي صنعتها الأم لها حب من نوع آخر ولو تعددت العرائس ذات الدمى الملونة التي فعلياً هي أجمل كثيراً من عيون صنعت من الأزرار.
كل منا كبر وهو على موعد بأن يحمل بين يديه طفلة ويجعل من حياته جنات، سيجعل له غرفة مليئة بالألعاب وجدران ملونة وسيجلب له سيارة ودراجة و… و… إلخ.
ونرزق بالأطفال ولكن في عالم غدا وكأنه ليس عالمنا الذي عشنا فيه منذ زمن، فقد هجرته البساطة وأصبح التعقيد يتناسب طرديا مع الأيام، ولكن عكسياً مع راحتنا وحياتنا، فأصبحنا دائمي التوتر والشكوى، ففي الوقت الذي كنا فيه أطفالاً نرتمي في أحضان أمهاتنا أو آبائنا لمزيد من الحنان والراحة، غدونا نبعد أطفالنا لأننا دائمو الانشغال، فهذا الاحتضان أو العناق قد يؤخرنا عن موعد مع مدير أو عمل أو لقاء أو ما شابه، ونترك وراءنا هذا الطفل يشتهي الحب والعناق.. وبالتالي ينزوي مع جهازه الذكي ويملأ الشغف المنقوص بزيادة مستويات اللعب التي يتفوق فيها على هذا وذاك.
في الوقت الذي كنا فيه أطفالاً نشتاق لرنة الهاتف الموضوع في إحدى زوايا البيت يمزق الصمت، غدت هواتفنا التي لا تفارق أيدينا تمزق أحساسينا إرباً إرباً لأنها تصدر أصواتاً طوال الوقت من مكالمة إلى رسائل نصية إلى رسائل تواصلية إلى تنبيهات ومؤشرات و… و…. .
في اللحظة التي قد يقفز فيها الطفل في أحضاننا فرحاً برؤيتنا بعد يوم طويل يمزق فرحه رنة هاتف لنبعده ونرد على المتصل، فإن أردت الآن أن أواجه ضميرك وأضعك أمام طفلك.. أيهما أهم؟ ألا يمكن من هذه المكالمة أن تتأجل حتى يشبع هذا الطفل شوقه من أحضانك، ويحكي لك ماذا حصل له في يومه؟
ألا تتخيل إنك عندما وضعته جانباً لترد على المتصل، فإنك قد قطعت عليه الكثير ليقوله، فيجد بذلك شخصاً آخر يستمتع بالسماع إليه ويهجرك ويغدو بعيدا عنك وأنك بذلك تزيد من قسوة المشاعر بينك وبين طفلك.
في الوقت الذي كنا فيه ننتظر زيارة الجدة أو الخالة أو العمة بفارغ الصبر ونتحلق حولهم في الصالون ونسترق سماع الأحاديث والقصص وتضيف إلى خبرتنا الكثير عندما كنا أطفالا.. الكثير سواء كان الحديث عن اقتصاد البلد الكاسد من ارتفاع أسعار البنزين والطحين إلى أخبار السياسة وأخبار الفن وانتقادات على مسلسل السهرة الجديد بعد أخبار الثامنة إلى انقطاع الماء المتكرر أو اقتراب التحضير للمدارس ومشاكل زوجية بين هذا وذاك…و….، أصبحت أحاديثنا الآن محصورة في مجموعات ضيقة داخل هواتفنا، لا علم لأطفالنا عن ماذا نتحدث إذا كنا فعلا نتحدث لأن جملة أحاديثنا أصبحت عبارة عن صور لصباح الخير ومساء الخير وجمعة مباركة وهلم جرا..
لا أدري إن هجرنا الإحساس أم نحن من هجرناه عندما سلمنا مشاعرنا لتطبيقات تواصلية من صنع البرمجيات الرقمية فامتزجنا معها لدرجة الانصهار.. وأصبحت مشاعرنا تقاس بكلمة في رسالة، وفرحنا وحزننا يُتابع على وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك نعرف المحبين من المبغضين وحتى الهدايا والأعياد تحولت إلى أحاسيس رقمية، فأصبحت هدية عيد ميلاد عبارة عن رقم في بطاقة يذهب بنفسه يشتري فيه ما أراد، فلم يعد عنصر المفاجأة مختبأً تحت ورقة الهدايا الزاهية الألوان، والكلمات الجميلة ومشاعر الحب أصبحت ضمن كلمات نصية قد نتفنن في كتابتها أو ننسخها من رسالة سابقة ونعيد إرسالها، فبقدر ما سهلت لنا هذه التكنولوجيا الكثير، بقدر ما أخذت منا أهم مكونات النفس البشرية وهي الإحساس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.