صلاحية الإسلام

إن جوهرالإسلام الرباني الذي ارتضاه لكل الناس منذ أن خلق الخلق و أرسل الأنبياء من لدن إبراهيم مرورا بتوسى وعيسى وإلى خاتم الأبياء، جوهره هو ذاك الذي يتكيف مع الفطرة الربانية للأإسان؛ ضعفا وقوة، صحة ومرضا، نوما ويقظة، فردا ومجتمعا، سلما و حربا، طفلا و شابا وشيخا، ذكرا وأنثى، إنه إسلام الفطرة الذي ارتضاه الله للبشرية دينا، وإلا فإن الإسلامي الجامد المقولب أو المقنن والذي يكيل مكيالا واحدا للجميع مهملا زمانية ومكانية الأفعال؛ هو إسلام استسلام لا هواء متسلطة، وتقليد آبائي أعمى، ودعوة الى القيد والعبودية بدل الانعتاق والحرية، وهو بالتالي ليس بالكيفية التي ارادها الله، ويفقد خاصية صلاحيته العالمية ليكون دينا قابلا للتطبيق مهما اختلفت الأحوال أو الأزمنة أو الامكنة.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/29 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/29 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش

قد لا نكون مبالغين إن قلنا إن كثيرا من الشعارات التي قد ترفع لغرض توصيف الإسلام كونه رسالة عالمية، أو أن صلاحيته لكل زمان او مكان، هي شعارات لا تمت بصلة للواقع المخالف لها في كثير من الأحيان، ورغم أننا نتغافل عن ذلك زاعمين أن المشكلة في الواقع تارة، و في الأعداء أحيانا، وفي الآخرين المخالفين تارة أخرى، إلا أن الحقيقة قد تكون مغايرة لكل من يرى الواقع بكلتي عينيه، وأن الإسلام كمنظومة وفق المفهوم السائد الذي يتبناه الأغلب الأعم من المجتمع الإسلامي بكل طبقاته، قد قصر عن إيجاد الحلول الواقعية لمشاكل الأفراد والمجتمعات، ولم يعد قادرا على مواكبة الحاضر، ناهيك عن المستقبل القريب أو البعيد على حد سواء، فهل تكمن المشكلة في الإسلام نفسه كمنظومة.. أم أن المشكلة تكمن في فهمنا وإدراكنا تجاه الإسلام؟

إن المتأمل المتجرد للوحي الإلهي الذي تكفل الله بحفظه، بجميع نصوصه وسياقاته، لا يرى إلا مفاهيم مجملة غير مفصلة، وتشريعات عامة غير مخصصة، وشعائر ذات بعد قيمي أخلاقي أكثر منها شكلي، وقصصاً أريد منها العبرة لا الفعل ذاته، وأما التفاصيل من كل هذا فقد تُركت للفكر، ليرى ما يناسبه وفق الزمان والمكان، وللعقل ليبحر في إيجاد الطرائق المبدعة، والكيفية الملائمة للارتقاء نحو إصابة أكثر، للأهداف القرآنية وللمقاصد الإلهية العامة.

إن الإسلام وفق تلك الصياغة القرآنية للمفاهيم والتشريعات ومقاصديتها، لا يقبل قولبته في قالب مغلق، أو تقنينه في قوانين نهائية لا تتغير، أو وفق شكل أو هيئة لا تتبدل، أو اجتهاد لا يُنقض (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد!) حتى وإن لزم الأمر، فالأصل بقاء الأمر مُشرعا لكل فهم جديد وفكر سديد وتصور رشيد، وفق مفاهيم مجملة، وتشريعات عامة لا يمكن أن تكون رهينة لتفصيل أو تخصيص أو تشكيل، وإن صدر ذلك عن رسول أو صحابي أو إمام صالح.

لقد برزت إشكالية عدم توفر نصوص للمناسبات المختلفة عند البعض فور وفاة رسول الله؛ بشأن الخلافة، وحرب ما سمي بـ"المرتدين"، وتسيير الجيش الذي أعده الرسول بقيادة أسامة بن زيد، إلا أن وجود كبار الصحابة من المدركين لروح الإسلام ومقاصده حال دون الانسياق وراء البحث عن النصوص أو تجميد النصوص المتاحة، بل والعمل -إن اقتضى الأمر- بعكس المفهوم العام للنص في أحيان مختلفة (إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم وتقسيم الفيء)، إلا أن ذلك لم يمنع من استدعاء نصوص للقرآن أو للرسول بغرض قولبتها لنصرة رجال أو ادعاء أحقيتهم بمال أو سلطة أو منصب، لتتفوق حرفية النص وتأويله القسري في أحيان كثيرة على مقصده الحقيقي العام الذي أراده الله.

إن الفهم المعكوس لهذا النهج القرآني أدى إلى سلوك خاطئ في التدبر لآيات كتاب الله، فبدلا من إعمال العقل في التفكير بما يناسب الواقع والزمان، ومن الاجتهاد الحر الذي يستند الى المقاصد من النصوص القرانية لا إلى حرفية النص نفسه، ومن التدبر في الآيات الكونية، وإطلاق نوافذ العقل والبصر والسمع في الكون والخلق والإنسان للتأمل والاستنتاج والاستقراء، ومن الاستفادة من القصص القرآني السالفة للتنبؤ بمآلات المستقبل القادمة، بدلا من ذلك كله ، توجه الناس الى استدعاء نصوص خارج السياق القرآني العام ، تنسب تارة إلى الرسول، وتارة أخرى الى الصحابة والتابعين ، أو إلى "السلف الصالح"، لحصر السياق القرآني العام أحيانا، وتقييد مطلقه أو تخصيص عمومه، وإن لزم الأمر إلى نسفه بحكم نسخه، دون إعمال عقل أو فكر أو استدراك مقصد خارج تلك النصوص.

لقد أسهم التراث الحديث بمختلف أشكاله.. والذي بدأ بالتضخم شيئا فشيئا نتيجة استدعائه، ورغم كون صحيحه أقل مئات المرات من ضعيفه، وموضوعه أكثر بكثير من الذي ثبت عن رسول الله، ومتناقضاته اكثر من توافقاته، أسهم هذا التراث بكليته في اغلاق الفكر نحو النصوص فحسب!، حصر التدبر إلا من استجداء الحروف واستنطاق الكلمات!، و محاولات الترقيع بين النصوص المتضاربة لعلها تجدي نفعا في فهم السياق الديني الرباني الذي سكت عنه كتاب الله؟. كما ادى إلى فرض إملاءات على الناس في كيفية الأكل والشرب والاغتسال والتبول والنوم وتنظيف الأسنان و طول الشعر وتمشيطه وشكل اللباس ولونه ، والتداوي، وربما ترتيب ثواب وعقاب على هذه الأفعال أو تركها! وفي اختلاق أحكام وحدود، وتشريع قتل الناس لاختلاف الدين، وتفسير ظواهر كونية، وتبرير تسلط الظالمين واعتداءاتهم، والدخول في أدق التفاصيل وأشملها.. والحجة جاهزة ؟! أنه دين يتدخل في كل تفاصيل الحياة؟ هكذا أراده الله!

لقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام منع كتابة حديثه طوال حياته، وعُلل ذلك بمنع اختلاطه مع القرآن الوحي الالهي، الا أن هذا المنع لم يتوقف بعد مماته رغم توقف نزول القران واكتمال جمعه وتصحيفه، بل واستمر طوال فترة الخلفاء الراشدين وإلى نهاية القرن الثاني. ويبدو أن المنع لم يكن للخوف من اختلاطه بكتاب الله فحسب، بل لكون كلامه وأفعاله عليه الصلاة والسلام لها مناسبات زمانية ومكانية قد تتبدل وتتغير أو تُلغى ويبقى الفعل أو الكلام منبتا عن واقعة.. واذن لا حجة له.

ان صلاحية الاسلام تكمن في الديناميكية المتجددة والمتحفزة بحسب الزمان والمكان ليعطي تصورا متجددا لكيفية انجاز مفهوم او تحقيق مقصد، وتنتهي تلك الصلاحية فور تغير الظرف الزماني او المكاني ، وقد يعتبر هذا التصور للحكم ضارا او غير نافع في حال تقييده في شكل قالب لزمان او مكان غير ذاك الذي نشأ فيه.
وتبقى صلاحية هذا الدين في ركيزتين أساسيتين، يفقد فيهما دين الله صلاحيته عند تعطيلهما (لا إكراه في الدين) والثانية (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ويتوجهما (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ليبقى دينا عالميا قادرا على التجاوب مع المتطلبات المتجددة.

إن جوهرالإسلام الرباني الذي ارتضاه لكل الناس منذ أن خلق الخلق و أرسل الأنبياء من لدن إبراهيم مرورا بتوسى وعيسى وإلى خاتم الأبياء، جوهره هو ذاك الذي يتكيف مع الفطرة الربانية للأإسان؛ ضعفا وقوة، صحة ومرضا، نوما ويقظة، فردا ومجتمعا، سلما و حربا، طفلا و شابا وشيخا، ذكرا وأنثى، إنه إسلام الفطرة الذي ارتضاه الله للبشرية دينا، وإلا فإن الإسلامي الجامد المقولب أو المقنن والذي يكيل مكيالا واحدا للجميع مهملا زمانية ومكانية الأفعال؛ هو إسلام استسلام لا هواء متسلطة، وتقليد آبائي أعمى، ودعوة الى القيد والعبودية بدل الانعتاق والحرية، وهو بالتالي ليس بالكيفية التي ارادها الله، ويفقد خاصية صلاحيته العالمية ليكون دينا قابلا للتطبيق مهما اختلفت الأحوال أو الأزمنة أو الامكنة.

وإن عودة الإسلام إلى واقع الحياة تكون ببقائه دينا موجها بسياقاته المتعددة على وجه العموم، تاركا تفاصيل التطبيق والعمل للاجتهاد وإعمال العقل حسب مقتضيات اللحظة وظرفية الواقع ومتطلبات المرحلة، وهو التوجه الأصلح ليعود هذا الدين فاعلا، ولكي يخرج من غربته التي استوجبت تنحيته الكلية عن مناحي الحياة وحينها فقط يستدرك رسالته العالمية التي أنشأ لاجلها، ويقود البشرية كيفما كانت المتغيرات إلى الوجهة الصحيحة التي ارادها الله.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد