في عام 1995 م استطاعت التقنية الحديثة الوصول إلى عمق البحر في الأطلسي حيث ترقد سفينة التيتانيك. كانت سفينة مصممة أن لا تغرق ولكنها غرقت مع رحلتها الأولى. ومات من الركاب يومها أكثر من 1500 راكب. السفن تغرق وكذلك المجتمعات كما تغوص سوريا تحت وقع البراميل في محيط مخيف من الضياع التاريخي؛ فسفينة المجتمع يمكن أن تتعرض لكارثة فتغرق في محيط التاريخ، ومن يعثر عليها هم مؤرخو الآثار. ويبدو أن ما يحصل في العالم العربي هو غرق مخيف، رأينا آثاره في جثة الطفل ايلان الذي أصبح إيقونة عالمية.
أتذكر جيدا عام 1999م وأنا أضع يدي على الجنسية ومرسوم الحقوق والحريات حين كانت القاضية الكندية تنطق في تلك المناسبة بكلمات واضحة بطيئة تكررها باللغتين الفرنسية والانكليزية : أيها السيدات والسادة نحن نعلم الرحلة الصعبة التي قطعتم ، والأوطان الغالية التي فارقتم ، طمعاً بمصير أفضل لتستقروا في هذا البلد الرائع . أيها الناس نحن فخورون بهذا الاستقطاب لثمانين إنسان ينتمون إلى ما يزيد عن ثلاثين جنسية ؟
تابعت: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين مثلي لا أتميز عنكم بشيء . الحق أقول لكم ادخلوا هذا البلد بسلام آمنين ، واعتنقوا الدين الذي به تؤمنون ، وتنقلوا واعملوا في أي مكان تحبون ، وادخلوه وغادروه في اللحظة التي ترغبون ، تعلموا قول الحق والعمل به وفي ذلك لومة لائم لا تخشون . علموا أولادكم ذلك وعلى محاربة كل ألوان التمييز العنصري والجنسي كونوا حريصين .
في النهاية ختمت القاضية خطبتها : والآن قوموا فليسلم بعضكم على بعض فقد أصبحتم بنعمة الله إخوانا . عندها لم يتمالك معظم من في القاعة عن إمساك دموعهم مبللة بذكريات مؤلمة من جمهوريات الخوف ودياسبورا التشرد . كان أكثرهم بكاء عائلة فلسطينية . كانت الخطبة تذكر ببيعة الصحابة لرسول الله ص؟!
هذا الكلام ليس دعاية للهجرة إليها فالناس يهرعون إليها من مشارق الأرض والمغارب بأشد من جذب المغناطيس لبرادة الحديد بين قطبين : يأس من وطن لم يبق فيه مكان للمواطنة ، وأمل بوضع القدم في أرض الميعاد ، يسبحون في تيار اطلنطي على ظهر مركب من ذهب ، لينعموا ببلد يجمع بين سحر الطبيعة والنظام وكل الضمانات ، تحتل فيه كندا الرقم واحد في العالم حسب إحصائيات الأمم المتحدة على الرغم من برده الزمهرير في درجة حرارة قد تصل شتاء إلى 63 تحت الصفر ، لا يشعر مواطنوه بذلك البرد الذي يضرب مفاصل المواطنين العرب في شتاء الشرق الأوسط الدافيء؛ فالحضارة كما نرى لا تعرف الجغرافيا!
لماذا يغادر الكندي بلده ويعود إليه في أي وقت يشاء وبدون تأشيرة ؟ يعود هذا الى مرسوم ( الحريات والحقوق ) التي تسلم باليد كأول وثيقة مع تهنئته على الجنسية تتضمن حقه أن يغادر بلده كما يحلو له فالوطن بيته ، ومتى يسأل الانسان وممن إذناً بمغادرة بيته أو الايواء اليه ؟ أما الحدود العربية فقد تحولت الى أسوار شاهقة لسجون كبيرة تحتجز مواطناً مسكيناً ويتيماً وأسيراً ؟
مامعنى تأشيرة الخروج في البلاد العربية ؟ إنها مؤشر فاضح لمواطن مدان سلفاً في سجن كبير يحتاج الى تدقيق قبل مغادرة محبسه للتأكد أنه غير مطلوب للعدالة بدون عدالة ، برسوم تقصم الظهر لدول تئن تحت العجز المالي تمد يدها الى آخر قرش من جيب مواطن مفلس ! فمن 22 دولة عربية يتراجع النمو في 17 منها في وقت يتضاعف فيه السكان مرتين حسب كتاب ( فخ العولمة ) في مطلع ألفية لامكان فيه للعرب حسب شهادة المؤرخ باول كينيدي .. إنها أجراس انذار مفزعة لاناس فقدوا حاسة السمع ؟
عند بوابات الحدود العربية تطل سحنة موظف عابس كاره لعمله ؛ فيتسارع نبض المواطن العربي مع تسليم الجواز ، ويجف ريقه متظاهراً بالابتسام ، في سحنة صفراء لاتسر المستقبلين ، ثم تبلغ القلوب الحناجر في انتظار عودة الجواز ، أو تدور الأعين كالذي يغشى عليه من الموت عندما يتأخر الجواز فلعل المواطن مطلوب لجهة أمنية ؟
مامعنى تسرب الكفاءات وهرب رؤوس الأموال ونزيف الأدمغة وصدور أفضل الكتب والمجلات تطبع بالحرف العربي في مكان لايوجد فيها ناطق واحد باللسان العربي ؟! إنها رواية بائسة عن وطن بلا دماغ ! فهل يمكن لكائن ممسوخ من هذا النوع أن يعيش ؟
يقول المثل القوقازي : من يفقد وطنه يفقد كل شيء ، بدون حبل سري ومشيمة ثقافية ، يمشي فوق أرض بدون جاذبية فقد التوازن الخلاَّق ، مكباً هائماً على وجهه ، هل يستوي هو ومن يمشي سوياً على صراط مستقيم ؟ في ورطة من نوع محير فلا الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده يعيش نفسياً في الأرض التي لا اسم لها ؟
مامعنى تدفق المهاجرين العرب الى كل أصقاع الأرض يشكلون 10% من سكان مونتريال في كندا وهم لايعلمون ؟ يحلمون بجنة أرضية جديدة ، بعد أن غادروا وطن تحول فيه بعضهم لبعض عدو ، بلجوء جوع الى السويد وألمانيا ، أو الاستعداد للزواج من أي فتاة أجنبية للقفز معها الى المجهول هرباً من جمهوريات الخوف والجوع والبطالة ، أو شراء جوازات سفر من الدومينيكان والارجنتين بعشرات الآلاف من الدولارات بدون تواجد ، في تحصيل جنسيات لعائلاتهم يأمنون بها على أنفسهم في الشرق المنكود ؛ لعلها تنفع يوماً إذا زلزلت الأرض زلزالها ؟
لو فتحت السفارة الكندية أبوابها لهجرة مفتوحة بدون شروط في أي عاصمة عربية لزحف اليها كل انسان بين 16 والـ 60 عاماً كأنهم جراد منتشر مهطعين الى الداع يقولون هذه فرصة لاتفوت ؟ في فرار من سفينة تهوي في رحلة موجعة الى قاع المحيط بأسرع من غرق التيتانيك ؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.