الموريسيكون والنبش في الماضي.. فجيعة حضارة إسلامية منسية

حين دخل اليأس نفوس المسلمين، ثاروا في منطقتي سرقسطة، وبلنسية، إلى ضفاف نهر شقر. فنظمت الدولة الأراغونية جيشاً من المتطوعين النصارى من كل أوروبا لمحاربة المسلمين، وتكون جيش ضخم بقيادة الملك كارلوس الخامس نفسه، فقضى على الثورة أواخر سنة 1562م، فقتل أعداداً كبيرة من المسلمين، واسترقَّ عدداً آخر منهم، وأجبر الباقين على التنصير، كما فر عدد من المجاهدين إلى الجزائر والمغرب. فتابع الباقون في البلاد حياتهم المزدوجة بين الإسلام في السر، والنصرانية في العلانية.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/25 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/25 الساعة 04:27 بتوقيت غرينتش

الموريسكيون هم المسلمون والأقليات غير المسيحية الأخرى التي حاولت البقاء في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط غرناطة، في يد القشتاليين المسيحيين عام 1492 ميلادي أي أنهم "شعب غرناطة المنهزم" الذين تم طردهم بعد سقوط دولة الأندلس في القرن الخامس عشر ميلادي، حيث بدأت معاناة المسلمين واليهود في أسبانيا بعد سقوط الأندلس سنة 1492، مما اضطرهم لتغيير عاداتهم وديانتهم، أو ممارسة شعائرهم في الخفاء إلى أن اتخذ الملك فيليب الثالث قرارا بالطرد النهائي للموريسكيين في عام 1609.. إنهم أحفاد مسلمي الأندلس الذين تعرضوا للتنصير أو الطرد، بعدما قام أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بإمضاء اتفاقية يتنازل فيها عن عرش مملكة غرناطة وعن جميع حقوقه فيها رغم أنه انتزع في حينها بعض الامتيازات لرعاياه ولمسلمي الأندلس، لكن وبمجرد تسلم ملك الكاثوليك الحكم في غرناطة حتى تنصل من الاتفاقية وبدأ يجبر المسلمين على اعتناق المسيحية وطرد وقتل من يرفض.

لقد عاش المسلمون في أسبانيا قرابة ثمانية قرون، وقد تركت الحضارة الأندلسية الإسلامية أثارا عميقة ما زالت ماثلة حتى اليوم في الحياة الثقافية في أسبانيا وفي تقاليدها ولغتها.. ويرجع ذلك إلى طول الفترة الزمنية التي عاشها (الأسباني والأندلسي) في شبه الجزيرة الإيبرية والامتزاج الذي طبع حياتهما المشتركة وإلى التفاعل الحضاري القوي بين الحضارتين.

كانت الحضارة الأندلسية تمتاز بتفوقها المادي والأدبي، وما زالت هذه المؤثرات الحضارية، قائمة إلى يومنا هذا، يقول المستشرق الأسباني "الدون برونات" في كتابه "الموريسكسون الأسبان ونفيهم": "إن السياسة الأسبانية لم تكتفِ بنفي الموريسكيين، وما ترتب عن ذلك من نضوب حقولنا ومصانعنا، وخزائننا، ولم يقتصر الأمر على انتصار التعصب وبربرية "ديوان التحقيق"، بل تعداه إلى اختفاء الشعر، وشعور الجمال الموريسكي، والأدب الذي رفع سمعته تاريخياً.

ومن دلائل هذا التفاعل بين الموريسكيين والأسبان، أن المورسكيين وجدوا في اللغة القشتالية، متنفساً لتفكيرهم، وآدابهم وأدعيتهم وكتبهم الدينية، وقاموا بعد فترة بابتكار لغة جديدة تعرف "بالألخميادو" وهي "اللغة الرومانية القشتالية، تكتب بحروف عربية" فكتب الموريسكيون القرآن سرا، مقرونا بشروح وتراجم "الخميادية" كما كتبوا بالألخميادو سيرة الرسول، والأمداح النبوية، وقصص الأنبياء، وبعض كتب الفقه والحديث.

بدأت عملية طرد الموريسكيين في سنة 1609 عندما وقع الملك فيليب الثالث يوم التاسع من أبريل/نيسان من نفس السنة، مرسوما لنفي مسلمي الأندلس. وانتهت عملية الطرد في سنة 1614 مع رحيل آخر الموريسكيين من مملكة قشتالة. لكن عمليات مغادرة مسلمي الأندلس لأسبانيا، انطلقت قبل هذا التاريخ، وذلك بعد سقوط مختلف الممالك المسلمة سنة 1492 وتمت عمليات الطرد بشكل ممنهج ومنظم في عهد الملكة إيزابيلا والملك فيرناندو، مع التوقيع يوم 14 فبراير/شباط 1502 على مرسوم، يقضي بطرد المسلمين من غرناطة..

هذه القرارات جاءت ختاماً لعمليات التعذيب والترويع التي مارسها حكام أسبانيا ضد المسلمين، وذلك بعد إطلاق أيادي محاكم التفتيش لإجبار كل مسلم على تغيير دينه أو التعرض لأصناف التعذيب والتنكيل وفي النهاية الطرد والتشريد.

لقد عانى مسلمو الأندلس (الموريسكيون) شتى أنواعِ التعذيبِ والتنكيل والقتل، على يد الملك فرناندو الثاني، ومروا خلال هذه الحقبة بمعاناة طويلة بلغت ذروتها بصدور مرسوم في التاسع من نيسان/أبريل 1609 يقر بطرد كل مسلم نهائياً من أسبانيا. علماً أن اتفاقية تسليم غرناطة الموقع عليها في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1491 بين كبار قادة المسلمين والأسبان قد نصت على احترام المسيحيين لسكان غرناطة المسلمين واحترام ممتلكاتهم وعقائدهم وشرائعهم والإبقاء على الشريعةِ الإسلاميةِ كمصدر للقضاء بالنسبةِ لهم، بالإضافةِ إلى السماح لهم بالعودة إلى أسبانيا في حالِ لم يرق لهم العيش في الدول التي هاجروا إليها. غير أن كرادلة الكنيسة المسيحية مارسوا سياسة العنف ضد الموريسكيين، باتباعِ مراسيم تقضي باقتلاعهم من جذورهم التاريخية ومنعِ تداولهم اللغة العربية وإجبارهم على الأكل في رمضان وقتل من يمسك متلبساً وهو يصلي الصلاة الإسلامية! ما دفع الموريسكيين إلى إقامة انتفاضتهم الشهيرة "ألبوخارا" ورفعِ السلاحِ، ما دفع الحكومة الأسبانية إلى إخمادِ انتفاضتهم وإجبارهم على الوقوف بين ثلاث خيارات: إما اعتناق المسيحيةِ، أو مغادرة أسبانيا، أو الموت بإصدار مرسوم كان عنوانه "تمرد المسلمين".

إن تاريخ الموريسكيين هو تاريخ الصراع بين أسبانيا المنتصرة الموحدة وبقايا العنصر العربي المنهزم بعد سقوط غرناطة، وقد بدأ أول فصل من فصول هذا التاريخ في القرن السادس عشر.. حين لجأ الموريسكيون إلى إخفاء عقيدتهم اتقاءً للاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له لإجبارهم على اعتناق النصرانية، فقد كانوا يخفون إسلامهم ويظهرون النصرانية.. غير أن الأسبان أدركوا هذه الحقيقة، فأقر القضاء الأسباني تشريع الإبادة العرقية والدينية الذي وضعه البابا في منشور عام 1474م لاستئصال الإسلام ومن بقي من المسلمين في بلاد الأندلس. وقد عرف هذا التشريع "بمحاكم التفتيش" التي كانت تحاكم الناس على نواياهم وعقائدهم وإيمانهم، بعد التفتيش في مكامن أنفسهم وسرائرهم.

لقد كان العام 1609 منعطفاً خطيراً وحاسماً في تاريخ أسبانيا خلال القرن الحادي عشر الهجري -السابع عشر الميلادي- حيث حُددت ملامح ومسارات تاريخية كبيرة، استأثرت باهتمام المؤرخين والباحثين. وبديهي أن يكون الأمر كذلك، فبالإضافة إلى الظروف التي اتخذت فيها قرارات الطرد والسياقات التي استصدرت خلالها مراسيم التهجير، يعتبر حدث طرد الأندلسيين الموريسكيين من أسبانيا مأساة إنسانية بكل المقاييس، وتجربة تاريخية انبثقت وتشكلت في إطار منظومات سياسية مهلهلة، وضمن أحوال اقتصادية متردية، ووسط تصادم ديني وتصدع اجتماعي وثقافي بين المسلمين والمسيحيين حيث وجد الموريسكيون أنفسهم أمام مؤامرة كبرى لتصفيتهم عرقياً ودينياً، فاختاروا سبيل الثبات على الحق والمقاومة معولين على الاستعانة بالدولة الإسلامية والخلافة العثمانية، غير أن الخلافات التي كانت بين هذه الأخيرة وبعض الزعماء المسلمين حالت دون نصرتهم وهم المضطهدون في بلادهم، فتمكن الصليبيون من إخماد انتفاضتهم، وخيروهم بين اعتناق النصرانية أو الخروج من أسبانيا متنازلين عن أموالهم وديارهم، ليبدأ بعد ذلك تنفيذ خطة الإبادة العرقية بجميع أنواع التعذيب والتنكيل وأساليب القهر والإيذاء والتقتيل الفردي والجماعي، والتي عرفت في أوروبا في تلك الحقبة بإدارة كنيسة الصليب.

بلغ هذا الاضطهاد ذروته عندما صدر قرار بتاريخ 30/2/1608م بطرد جميع الموريسكيين من أسبانيا، إذ تم تهجير نحو مئة وعشرين ألف مسلم إلى دول شمال أفريقيا، خاصة إلى دول المغرب العربي. وفي عام 1611م صدر قرار آخر بملاحقة المتخلفين عن التهجير يقضي بمنح ستين ليرة أسبانية جائزة لكل من يأتي بمسلم حي، مع حقه في استعباده إن شاء.. وثلاثين ليرة لكل من يأتي برأس مسلم مقطوع، وقد بلغ عدد الذين طردوا من أسبانيا في الفترة التي تتراوح بين عامي 1609 و1614م نحو 327000 مسلم، استشهد منهم نحو 65000 غرقاً في البحر أو قتلا في أثناء الرحلات، أو تأثراً بالأهوال ومشاق الرحلة من تجويع وغيره.. وقد تمكن نحو 32000 مسلم من البقاء خفية في أسبانيا إلى عام 1726م، لتبدأ محاكم التفتيش سلسلة جديدة من أساليب اضطهادهم.. من ذلك أنها حكمت في غرناطة على نحو 1800 مسلم بتهمة الإيمان بالإسلام ورفض اعتناق النصرانية، وجرت المحاكمات نفسها في مدن ومناطق أخرى بالتهمة نفسها، وفي عام 1769م تلقى ديوان التفتيش معلومات عن وجود مسجد سري في مدينة قرطاجنة، فتمت مداهمته وألقي القبض على جميع من كانوا فيه من مسلمين وعددهم مئة مسلم، فحوكموا جميعاً وأعدم معظمهم!

تقول إحدى الوثائق إن الرهبان الذين سموا أنفسهم "كلاب الرب" في إشارة إلى تفتيشهم لعقائد الناس، كانوا يمنعون الأطفال دون السابعة من مصاحبة آبائهم، وإن 46 حارساً بمدينة بلنسية قاموا بفصل حوالي 820 طفلاً و1400 طفلة بالقوة عن أمهاتهم بمن فيهم الرضع.

ويقدم المقري في كتابه "أزهار الرياض" وصفاً مؤثراً ومؤلماً لما حلَ بالإسلام والمسلمين من طرف القساوسة: "فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب في الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة في باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى إذ ذاك على رءوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصير أن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال ويطلبون لطف الله في كل حال".

كما قدم باحث أسباني يُدعى فيرمين مايورغا وثيقة تتحدث عن إحراق ثلاثمائة موريسكي أحياء في يوم واحد، وذكر أن الأطفال كانوا يربون في بيوت المسيحيين ليصبحوا فيما بعد عبيداً لهم، حتى اضطر المسلمون أن يخفوا إيمانهم ليحافظوا على أرواحهم، وأن يبنوا مقابر سرية للحفاظ على رفاتهم بعد الممات أما من بقي في أسبانيا من الموريسكيين وكانوا ممن ضمهم قانون تنصير المسلمين -دفعهم إلى اعتناقِ المسيحية- والذي كانَ يشتمل على سنِّ قوانين تسلبهم تاريخهم.. ومنها منعهم من التحدث باللغة العربية نهائياً، و منع الحمامات التي اشتهر بها العرب في الأندلس، وفرض ضريبةٍ عالية على من أراد أن يلبس على الطريقةِ العربية، والإبقاء على الأبواب مفتوحة يوم الجمعة وفي تواريخ الأعياد كي تتم مراقبتهم كما يدعون إلى الأكل وشرب الخمر علانية في رمضان كي يظهر عدم صيامهم، وأي عقودٍ كتبت باللغة العربية تعتبر لاغية وأن لا زواج إلا في الكنيسة، حتى أن الكنيسة كانت ترسل امرأة لحضور عمليات الولادة لدى الموريسكيات لكي لا تقرأ الشهادة في آذانِ الأطفال بل يؤخذون إلى الكنيسة لتعميدهم عوضاً عن ذلك!

كما تم إنشاء مدارس خاصة بأبناء الموريسكيين لتعليمهم اللغة الأسبانية وتعاليم الدين المسيحي.. وبهذا تحول الموريسكيون من أشخاصٍ ذوي فكرٍ خلاقٍ وإبداعٍ وأصحاب حضارة قرطبة وقصر الحمراء إلى مجردِ عبيد وخدم وعمال في حقول أغنياء الأسبان لا أكثر!

يقول الروائي الإسباني "إميليو بايستيروس" إن طرد الموريسكيين من أسبانيا كان ثاني جريمة ارتكبت في حق الحضارة الإسلامية بالأندلس، أما الجريمة الأولى، فقد ارتكبتها الملكة "إيزابيلا" الكاثوليكية التي أحرقت جميع كتب المسلمين في ساحة باب الرمل بمدينة غرناطة باستثناء كتب الطب.

وحين دخل اليأس نفوس المسلمين، ثاروا في منطقتي سرقسطة، وبلنسية، إلى ضفاف نهر شقر. فنظمت الدولة الأراغونية جيشاً من المتطوعين النصارى من كل أوروبا لمحاربة المسلمين، وتكون جيش ضخم بقيادة الملك كارلوس الخامس نفسه، فقضى على الثورة أواخر سنة 1562م، فقتل أعداداً كبيرة من المسلمين، واسترقَّ عدداً آخر منهم، وأجبر الباقين على التنصير، كما فر عدد من المجاهدين إلى الجزائر والمغرب. فتابع الباقون في البلاد حياتهم المزدوجة بين الإسلام في السر، والنصرانية في العلانية.

وعملت الدولة الأسبانية بشطريها، أراغون وقشتالة، على قطع الصلة بين المسلمين في المناطق المختلفة، خاصة بين مسلمي مملكة بلنسية ومملكة غرناطة. ففي سنة 1541م، حرمت على مسلمي غرناطة النزوح إلى بلنسية، وحرمت الهجرة من بلنسية إلا بترخيص ملكي مقابل غرامة باهظة.

ملك المسلمون ثلثي شبه الجزيرة وسموها بـ"الأندلس"، وأنشأوا بها مملكة قرطبة العظيمة، التى كانت أعجوبة العصور الوسطى، والتى حملت وحدها فى الغرب شعلة الثقافة والمدنية مؤتلقة وهّاجة وقت أن كانت أوروبا غارقة فى الجهالة البربرية فريسة للشقاق والحروب.

لقد حدد العلامة ابن خلدون في مقدمة تاريخه العوامل الحاكمة في التطور الإنساني عبرالعصور وهي المكان والزمن والبشر..
ـ المكان: الجغرافيا أي الأرض والموقع والمناخ والموارد.
ـ الزمان: التاريخ أي تواريخ الشعوب والحضارات والصراعات والأفكار والعلوم.
ـ البشر: الأمم والشعوب، والمجتمعات.
وإن كل قوة اجتماعية، لا بد لها من التعبير السياسي عن نفسها، ولا بد لها من إستراتيجية شاملة تناسب حجم مصالحها، سواء في المجال الإقليمي أو العالمي، وهذا ما يتطلب الحضور الدائم في الزمان والمكان
وإذا كانت اللغة هي مرآة العالم فإن عمل الكاتب ينحصر في الإعراب عن المعاني أي البحث عن الحقيقة، أما الكتابة فهي طريقة من طرائق التفكير والتعبير تكشف عن حقيقة الحياة والوجود.
الأندلس ليست بمكان ولا زمان.. بل هي تجربة حضارية إنسانية لا مثيل لها استمرت تنير ظلمات العالم زهاء الثمانية قرون من الزمان

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد