بعد فترة من الزمن لن يعنيك أن تقرأ الأشخاص من حولك كشخصيات منفردة، لأنك تدرك تماماً ما غيرت الحرب فيهم، لا يمكنك توقع ما يحزنهم أو يضحكهم، يتكرر ذات الموقف مرتين فتأتيك ردات فعلهم مختلفة، فالتناقض أصبح من صفاتهم، ربما هي مزاجية تترافق مع البيئة المحيطة، غلاء الأسعار أو قرار الاحتياط، الترفع الإداري احتمالاً آخر، القرار الذي ينتظره الأهل قبل الطلاب، والحديث عن الطلبة يتخذ منحىً اَخر، تشاهد مختلف التوجهات لديهم من شيوعيين، بعثيين، أو المتمردين على الواقع إلى الأرستقراطيين، جالسين بنفس المكان أو ربما على نفس الطاولة، يستمعون لبعضهم، مجموعة غريبة تتشكل.. تميز الفروق بينهم حتى بطريقة اللباس من بدلة وقميص أو بنطال جينز مع طاقية صوف يتميز بها الكثيرون.
على تلك الطاولة تفتح أحاديث مختلفة ابتداءً من تفاصيل حياة يومية بسيطة، إلى واقع الأمة العربية المعاصر مع تحليل، تفنيد واستفسارات واقتراحات، لتعلو أصوات وتختفي أخرى خوفاً من المحيط وسرعة انتشار الصدى فيه، تعود بك الذاكرة خمس سنين إلى الوراء ليمضي شريطاً كيف استطاعت الحرب في بدايتها خلق اختلافات على أبسط الأمور لتصل إلى الوقت الحالي وتشاهد الأضداد يجتمعون سوياً وكأن الأزمة عملت على جمعهم بعد كل ما حدث.
موسيقى متناقضة تنفذ إلى أذنيك أثناء مسيرك في شوارع دمشق، ألحان كلاسيكية وموسيقى طربية تختلط مع نغمات أغاني لونا فارس في شارع واحد وبمكانين متجاورين، تتساءل بداية من أين هذه الأغاني؟ لتنصدم بأن مقهىً يبدو مقفلاً يخرج منه العديد من الشبان، كل منهم يتلوح على الأرض، لتلاحقهم عيون المارة، وتتبعهم فتاة عشرينية برفقة رجل بالتأكيد تجاوز الخمسين من عمره، ليتناقشوا قليلاً ثم يكملوا السير معاً، متجاهلين كل النظرات حولهما، التي تخبرك ما يحدث خلفك بكل بساطة من الإشارات والغمزات بين مجموعة الفتيات التي توقفت لتتناول وجبة سريعة من أحد المطاعم، تاركين ما بقي على الطاولة ليأتي ذلك الطفل الشريد يجمعها ويتأهب راكداً خوفاً أن يلحق به أحد ويشاركه تلك الغنيمة.
مشهد يرافق حياتك اليومية بين الخوف والقوة، اليأس والأمل، الموت والحياة، خلال مدة في بعض الأحيان لن تتجاوز الخمسة عشر دقيقة مع سقوط قذائف الهاون والصواريخ، حالة من الهلع والفزع، تخلف من بعدها ضحايا، دماء وأضرار، لينقلب المشهد خلال دقائق معدودة وربما ثوانٍ إلى الحالة الطبيعية للشارع، وكأن شيئا لم يكن، وكأن رائحة الموت لم تنفذ إلى أنوف الجميع.
ليبقَ الخبر الأبرز على الساحة هو الوداع.. من شهيد وفقيد إلى مسافر ولاجئ، تتحسر على كلام ووقت ضاع دون لقائه، دون أن تخبره كم تحبه، كم يعني لك وجوده في حياتك، لا تستطيع تحديد السبب الخفي الذي منعك من قول ما يجول بخاطرك، ربما هو المعتقد الذي يتملكنا أنك عندما تخبرهم بتعلقك بهم، يرحلون عنك، أو اختلاف رأي تسبب بفراقهم، تتخذ القرار بأنك من اليوم ستطلع الجميع على مشاعرك الحقيقة، لكن في لحظة الحقيقة تختنق الكلمات لتبقى محفورة ضمن القلب.
لا تنفك عن التفكير وأنت القاطن ضمن دمشق عن كيفية الخروج منها ومن سورية، للهرب من أهوال الحرب، قطع للمياه، للكهرباء، وقريباً ربما للهواء، تغادر لتتنفس الأمان، مرتاحاً أن الموت يلاحقك لكن بطريقة طبيعية تجري على البشر جمعياً، وليس متربصاً خلف كل زاوية وبين الحارات، هاطلاً من السماء، بذات الوقت كيف لك أن تستغني عن هذه الأرض، عن نهر بردى الجافة مياهه، عن حجارة دمشق القديمة، عن قهوة الكمال -التي ما أزال أحلم بالجلوس فيها يوماً- عن قصص وحكايات بسيطة تمد فقراء دمشق وأغنياءها بسعادة لن تستلذ بها في أي مكان آخر، جلّ ما تكون متأكد منه أنك في حيرة من أمرك لهذه المدينة، وكأنها خلقت لتجمع الاختلافات معاً.
أما الحقيقة الواقعة بأن الشام رغم كل الصعوبات ما تزال تنبض بالحياة، وعلى بعد أميال قليلة منك هنالك مدن وقعت عقداً طويل الأمد مع الموت..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.