تكشّف صراع القوى داخل الدوائر المغلقة التي تحكم الجزائر على مدار عقود من الزمن خلال الأسابيع الأخيرة مع ظهور اتهامات بحدوث انقلاب ناعم، حيث تتزايد التساؤلات حول الحالة الصحية للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
الحقائق التي يتم الكشف عنها يومياً أظهرت ما عاشه الجزائريون من خداع لسنوات، كما زادت مخاوفهم مما يوجد بكواليس الدولة التي ساعدها احتياطي النفط الذي بدأت أسعاره في التراجع واستقرارها النسبي على مقاومة الحركات الجهادية المنتشرة بالبلاد.
حالة صحية غامضة ومخاوف من انقلاب ناعم
الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة، البالغ من العمر 78 عاماً، مازالت غامضة بعد إصابته بالسكتة الدماغية مرتين خلال الأعوام الأخيرة، حتى أن مجموعة بارزة من المقربين طلبت رؤيته للتأكد من أنه لا يزال يتخذ القرارات بنفسه، وهو ما لم تحصل عليه، ما يؤكد أن الرئيس يعيش في عزلة تامة ولم يقابله أحد منذ أكثر من عام.
وتصاعدت الشكوك جراء رفض المقابلة خشية قيام بعض أفراد الزمرة الحاكمة بزعامة سعيد بوتفليقة (شقيق الرئيس) بانقلاب داخلي وتولي حكم البلاد باسم الرئيس، وفق تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الأربعاء 23 ديسمبر/كانون الأول 2015.
فراغ هائل في مؤسسة الرئاسة
صحيفة "نيويورك تايمز" نقلت عن لخضر بورقعة، أحد الذين طلبوا لقاء الرئيس، قوله لصحيفة "الوطن" اليومية المستقلة: "نشعر بأن الرئيس أصبح رهينة لدى حاشيته المقربة".
بورقعة، أحد المحاربين السابقين في حرب الاستقلال عن فرنسا، قال: "ما يدفعنا هو ذلك الفراغ الهائل الذي نشعر به على مستوى رئاسة الجمهورية".
وفي غضون ذلك، سواء كان الرئيس يتخذ القرارات بنفسه أو من خلال المقربين منه، فقد استجدت أمور تنبئ بحدوث تحول، تطهير جهاز الاستخبارات واعتقال كبار جنرالات الجيش وإصدار سلسلة من القوانين التي تكفل فرض عقوبات قاسية على الصحفيين الذين يثبطون من "الروح المعنوية للأمة".
عمر بلوهوشيت، الناشر بجريدة "الوطن" التي تتولى نشر العديد من الحقائق الخفية من خلال الدوائر الداخلية للرئيس، ذكر أن "هناك حالياً صراعاً شديداً بشأن الخلافة. لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيحدث".
مجموعة الشخصيات الـ19
وكان من بين أكثر التطورات إثارة للدهشة تشكك "مجموعة الشخصيات الـ19" التي طالبت بلقاء الرئيس، في القرارات الظاهرية الصادرة عنه.
من بين تلك الشخصيات أبطال قوميون مثل السيد بورقعة، وزهرى دريف المقاتل في حرب الاستقلال أيضاً، ولويزا هانون السياسية التي تم اعتقالها حينما كان يتم حظر إقامة الأحزاب السياسية.
هانون، الزعيمة الحالية لحزب العمال، ذكرت أنها تتشكك في أن الرئيس قد اطلع بالفعل على طلب المقابلة.
وقالت خلال مقابلة مع صحيفة "الوطن": "إنني على قناعة بأنه إذا كان قد اطلع على الطلب فإنه كان سيدعو بعض أعضاء المجموعة لمقابلته. حينما يسيطر المرض على الإنسان ويفقده قدرته على الحركة يصبح معتمداً على الآخرين".
كما وجّهت هانون اتهامات مباشرة إلى مجموعة من الوزراء بالتلاعب بحالة الرئيس من أجل تمرير قرارات تخدم مصالحهم الخاصة.
وأبدى كل من هانون وبورقعة تشككهما في العديد من القرارات الحكومية التي يريان أنها لا يمكن أن تصدر عن الرئيس، خاصة قرار اعتقال اثنين من كبار الجنرالات.
قوى غير دستورية تسيطر على زمام الأمور
وفي هذا الشأن أيضاً، قال علي بنفليس، رئيس الوزراء السابق الذي حصل على المركز الثاني في سباق انتخابات الرئاسة خلال العام الماضي، إن اعتلال صحة بوتفليقة خلّف "فراغاً في السلطة"، ما سمح لمجموعة مقربة منه بتولي زمام الأمور.
وأضاف "سيطرت القوى غير الدستورية على سلطات الرئاسة، بمنأى عن الدستور"، ووصف بنفليس هؤلاء المسؤولين بأنهم أصحاب أنشطة غامضة يدورون في فلك الرئيس.
تبعات اقتصادية
وتحذر أحزاب المعارضة من أصداء أوسع نطاقاً، حيث قال عبدالرزاق ماكري، زعيم حركة مجتمع السلام، وهو أكبر الأحزاب الإسلامية الشرعية بالدولة: "أشعر بالقلق الشديد على الدولة بالكامل وعلى استقرارها".
وأضاف: "بجانب المشكلات السياسية، هناك مشكلات اقتصادية أيضاً" ناجمة عن انخفاض هائل في أسعار النفط، الذي وصل إلى أقل معدلاته على مدار 11 عاماً هذا الأسبوع.
حكم عسكري
وكانت الجزائر خضعت على مدار حقبة زمنية طويلة لحكم عسكري وسياسي مبهم، يتم به التوصل إلى القرارات وراء الكواليس من خلال نظام الإجماع. ويرى المعلقون السياسيون أن هذا الإجماع قد يتعرض للتفكك حالياً.
وقد كانت حركة تطهير الاستخبارات والإطاحة بالجنرال محمد مدين خلال شهر سبتمبر/أيلول 2015 بمثابة زلزال هز أرجاء الجزائر.
مدين، المعروف باسم توفيق، قاد جهاز الاستخبارات على مدار 25 عاماً. وكان شخصية مؤثرة ذات نفوذ ولم يظهر بوسائل الإعلام أو يتحدث للجمهور مطلقاً.
كما تولى الإشراف على "حرب قذرة"، كما وصفتها الصحيفة الأميركية، ضد المتمردين الإسلاميين خلال التسعينيات، وتلاعب بالانتخابات، وسيطر على مجال السياسة من خلال ملفات يحملها ضد الجميع.
أحزاب المعارضة ترى أن مدين نظم الانتخابات الرئاسية خلال أبريل/نيسان 2014 كي يضمن فوز بوتفليقة بفترة رئاسة رابعة.
ولاية رئاسية رابعة رغم المرض
ورغم قضائه شهوراً بالمستشفى جراء الإصابة بسكتة دماغية عام 2013 وعدم الظهور أمام جمهور العامة أو إلقاء أي كلمة خلال حملته الانتخابية، فاز بوتفليقة بنسبة 81% من الأصوات.
ومع ذلك، عقب إعادة انتخاب بوتفليقة لم يعد مدين مقرباً للرئيس. وبدا الرئيس أو البطانة المحيطة به، عازمين على توطيد السلطة من دونه.
وبرز الوزراء المرتبطون بشقيق الرئيس ومستشاره، بينما تم استبعاد الحاشية السابقة كأعضاء مجموعة الـ19.
وفي أغسطس/آب 2015، تم اعتقال الجنرال عبدالقادر، المعروف باسم الجنرال حسن، نائب رئيس جهاز الاستخبارات والمسؤول عن إدارة مكافحة الإرهاب.
وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2015، صدر حكم بسجنه لمدة 5 سنوات بتهمة تدمير المستندات وخرق اللوائح.
وفي غضون ذلك، ظل الرئيس بوتفليقة صامتاً، لا يتواصل إلا من خلال خطابات يتم إرسالها إلى الحكومة، ما جعل المقربين يتساءلون عمن يتولى زمام الحكم فعلياً.