تجاوزته بعدة خطوات.. وسريعاً راجعت نفسي، فعدت إليه وبادرته بالتحية ثم سألته "هل يمكنني أن أشتري كستنة بجنيهين؟"
فأجاب على الفور وبلهجة إنجليزية ثقلية (Yorkshire accent) وبابتسامة واسعة "بالطبع سيدي".
ثم بدأ في تجهيز الطلب.. وبينما هو كذلك سألته "منذ متى وأنت تبيع على هذه العربة؟"
رد قائلاً "منذ سنين طويلة.. فالجميع يحب الكستنة المشوية في الأجواء الباردة"
ثم عدت فسألته "ولكن لماذا لا ترتاح من عناء التنقل بهذه العربة المتحركة وتستقر في دكان بعنوان ثابت؟".
أجاب "فكرت في ذلك.. ولكن فعل ذلك يعارض نموذج الأعمال الذي أبني عليه عملي"
فعاجلته مستعجباً "نموذج أعمال! "Business model".
قال "نعم.. وهل سيُكتب النجاح لأي عمل بدون خطة واضحة ونموذج أعمال محدد المعالم"
عندها مد يديه إليّ بكيس ورقي وضع فيه الكستنة المشوية.. وناولته بدوري الجنيهين.. ثم استأذنته بالوقوف قليلاً والحديث معه.. فهز رأسه وقال "بالطبع سيدي".
سألته "هل لك أن تشرح لي ما هو نموذج الأعمال الذي تتبعه في عملك اليومي؟"
أجاب "طبعاً.. أنا ببساطة أعرف ماذا يحتاج الناس ومتى وأين يحتاجون ذلك (need).. إضافة لخبرتي الجيدة في الشراء بالجملة والبيع بالتجزئة بعد إضافة ربح معقول supply chain management) لا يمكن أن أنسى أن لدي وصفة خاصة لشواء الكستنة (technical experience) ثم أضاف "هذه هي العربة الثالثة التي أمتلكها.. وأنا أديرها بنفسي لأهمية موقعها (location) بينما يدير العربات الأخرى عمال عندي (human resource management).. نحن نتحرك بعرباتنا تبعاً لأماكن الازدحام في شوارع ليدز (business flexibility)، فتجذب رائحة الشواء الزبائن ذوي الحياة المشغولة ليتوقفوا لدقيقة أو لدقيقتين لشراء الكستنة المشوية" (إضافة المصطلحات من الكاتب)
قلت له "عزيزي.. أنت -على بساطة ما تبيع- ريادي أعمال حقيقي.. ولو أنك في بلادي لكنت مدرب صاحب خبرة". ثم صافحته بحرارة وانصرفت.
تلك كانت مقدمة الكلام، أما هدف هذه التدوينة فهو تسليط الضوء على ظاهرة انتشرت سريعاً خلال الأعوام القليلة الماضية في الشرق الأوسط بشكل عام، وفي بلادي على وجه الخصوص.. ظاهرة ريادة الأعمال. غير أنني أجد صعوبة في فهم كل ديناميكيات تلك الظاهرة. بداية يجب أن يكون هناك تعريف واضح لريادة الأعمال ولريادي الأعمال، ولكن ما أراه -ولعلي مخطأ- أن الحديث الآن يدور بكثرة عن المشاريع ذات التوجه التكنولوجي بشكل مكثف مع إهمال أو تجاوز للأفكار "التقليدية" للأعمال. إضافة إلى ذلك يمكن الإشارة إلى التاريخ "الحافل" خلال السنوات القليلة الماضية لمشاريع تُعنى بتقديم الدعم المعنوي والمادي "لريادي الأعمال"، حيث عملت بعض المؤسسات العاملة في ذلك المجال على تأهيل ودمج الشباب في مشاريع العمل عن بعد لفترات محدودة في سبيل إثبات جدارتهم، ومن ثم الاعتماد على أنفسهم، هذه نماذج جيدة جداً بلا شك، ولكن يبقى السؤال في مكانه: هل كل هذه الأنشطة الداعمة لريادة الأعمال هي فقاعة سريعاً ما تنفجر بانتهاء فترة ضخ الهواء (الاحتضان المالي في هذه الحالة) أم هي بذرة وضعت بعناية في مكانها الصحيح لنجني ثمارها خلال سنوات؟
خلال العقد الأول من هذا القرن راجت ظواهر كثيرة في أنشطة مؤسسات المجتمع المدني في غزة، وعلى الرغم من حجم الإنفاق الكبير الذي ضُخ في تلك المشاريع، إلا أن الفائدة لم تكن إستراتيجية وسرعان ما تلاشت وعدنا إلى مربع الصفر، خُذ على سبيل المثال مشاريع خلق فرص عمل لخريجي الجامعة لفترات زمنية لا تزيد عن ستة أشهر. في ظل اقتصاد متهاوٍ.. لا يمكن النظر إلى تلك المشاريع إلى على أنها "إبر بنج" موضعي لتخذير الخريج لفترة محدودة سرعان ما يفيق منها على واقع أليم. مثال آخر هو دعم المشاريع الصغيرة والتي من باب خبرتي الشخصية وجدت أن الكثير منها يفشل بمجرد إيقاف الدعم المالي له، وما نجح منها لم يحقق الهدف المرجو منه.. استقلال مالي حقيقي لصاحب المشروع وأسرته.
ما أنصح به -بناء على خبرة عملية ودراسة أكاديمية- هو ضرورة وجود إستراتيجيات طويلة الأمد تُبنى على مسح كامل لكافة الموارد المتاحة والمتوقعة، يكون الهدف منها هو نقل الاقتصاد بكل مكوناته والشباب بكل فئاتهم إلى مرحلة أكثر استقراراً.
أخيراً.. يجب أن أذكر بأن بائع الكستنة سألني قبل أن أمضي في سبيلي "من أين أنت؟" فأجبت "أنا من بلاد ما خلف المعبر".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.