عندما يصبح الوطن مجرد ساحة قتال
ساحة للصراع على البقاء
ساحة لذكريات دموية وصور وحشية تلاحقك بين الحين والآخر..
صور لجثث مرمية فوق بعضها بعضا لأشخاص لطالما عرفتهم شاركتهم واقعهم كما أحلامهم
وبلحظة واحدة فقدتهم كما هم فقدوا حياتهم وأحلامهم .
أمّا عن مشهد فقدناهم فقد صُوّر بأمّ الأعين وخُزّن في الذاكرة مباشرةً ليصعب مسحه إلّا بالهرب..
الهرب من ذكريات ذلك المشهد
من رائحة الموت المنتشرة في أزقة التصوير المباشر التي طالما فاحت منها رائحة الورد والياسمين..
الهرب من تلك الذكريات، ذكريات الحرب..
بدأت أفكر بالهرب!..
الهرب من الموت إلى الحياة..
من ذكريات الألم إلى تذاكر الأمل.
فكان جواز السفر..
في لحظة ما حوّلت كل أحلامي إلى مجرد تذكرة أحملها وأمتعتي وأطير بها وربما أبحر إلى واقعٍ لا أشتمّ به رائحة الدماء ولا أرى آثاراً لها على الطرقات وفي الأزقة…
أنهيت إجراءات التذكرة، وبدأت برسم الأحلام والتخطيط لها..
لكن إلى أين؟
إلى أي بلد، كان المهم أنني أردت الهرب.
وصلت بأحلامي إلى الصين.
إلى الصين؟!
نعم إلى الصين.
أحلامي وصلت إلى هناك، أمّا أنا فبقيتُ هنا أرقب نفسي من بعيد فأجدها مجرد سراب لا يمكن أن ألمسه.
لا لشي إلا أنني لا أستطيع أن أترك ما خلقت لأجله "هنا قبل هناك" ودون أن أملك حجتي القوية لذلك أمام الله عز وجل.
كيف لي أن أترك دون أن أخوض تجربتي وأتحدى ذلك الواقع وتلك الذكريات التي أبت في عقر دارها إلّا أن تلاحقني.
فأعود أدراجي إلى واقعي المرير، ربما ليس بالذكريات الدموية وحسب ولا حتى بواقع الحرب أيضاً
بل بالمجتمع بأكمله.
بأسلوب التعليم الفاشل، بجهل الناس، عاداتهم وتقاليدهم التي جعلت منا أناسا عاديين وربما أشبه بالربوتات بل الحيوانات ونسوا قوله عز وجل "إني جاعل في الأرض خليفة".
ربما عدت للتفكير بجواز سفري مراراً وتكراراً، تذكرتي للهروب من ذلك الواقع المؤلم..
وفي كل مرة كما هي العادة أعود لحزم أمتعتي وترتيب أحلامي..
وعندما يحين الرحيل أقف مترددة على الحدود..
أين سأرحل..؟
ولمن سأترك هذا الوطن..؟
والحلم الذي رسمته..؟
كيف له أن يتحقق بعيداً عن مسقط رأسه؟
كيف له أن يترجم إلّا بلغة الوطن؟
كيف لي أن أسافر وأهرب من مهمةٍ كلفني الله إيّاها وأنا بلا حجةٍ..
في كل مرة أحاول الهرب والرحيل أقف مترددة وأعود أدراجي حتى قبل أن أخطو ولا حتى خطوة واحدة في سبيل الرحيل..
أعود بنفسي إلى الله عز وجل لأرى أن طريق الصواب هو البقاء هنا
لكن لأجل ماذا؟
لأجل الحرب والجهاد؟
نعم لأجل الحرب.
إنها ليست أية حرب تلك التي اخترت.
لن تكون حربي بحمل السلاح ولا لأجل هدر دم أيًّا كان..
إنها حربي الشخصية بيني وبين نفسي..
أعلنت الحرب على نفسي وبدأت الجهاد بكل أشكاله..
فهي خياري الأمثل بعيداً عن خيار الهرب..
وبدأ فتح الله.. وبدأت أرى بوادر النصر..
فعدّت بذاكرتي مجدداّ، لكن هذه المرة من زاوية مختلفة ومشهد آخر..
هذه المرّة تذكّرت مشهد الموت والولادة بآن واحد..
لقد منحني الله جلّ وعلا الحياة بعد أن كنت بمواجهة مباشرة مع الموت..
لقد رأيت الموت ونطقت الشهادتين، إلا أني لم أمت!
فكانت فرصتي الجديدة للحياة لا لشيء آخر سوى العطاء..
لا لأجل الاستسلام للمشهد والانصياع لألم الذكريات..
فرصتي لتحدّي هذا المشهد ليس بروحي التي عادت للحياة وحسب بل بجسدي وفكري وإخلاصي لتلك الأرض التي بلّت بدماء الأصحاب والأحباب..
أقف على الحدود لأعود أدراجي مجدداً..
لأعيش فرصتي الجديدة.. لأعيش التغيير بكل تفاصيله..
سأحوّل رموز الحياة التقليدية إلى أيقونات جديدة أقوم بتحديثها على طريقتي لتناسب جهاز حياتي الجديد وتعاصره..
لقد اكتشفت بأنّ ما أحتاجه فعلاً هو جواز سفر إلى أعماقي لا إلى أي بلد كان..
أمّا عن تأشيرة الدخول فهي من الله عز وجل عندما منحني الفرصة الجديدة للحياة، للتعرّف على نفسٍ تليق بي كخليفةٍ على هذه الأرض.
بدأت رحلة الاستكشاف فوجدت أنّي أستحق الحياة لأجل من مات ولأجل من بقي ولأجل من هاجر لأجل نفسي وما أملك من قدرات لم ألتفت إليها يوماً رغم أهميتها..
إنها المتعة بحدِّ ذاتها.. متعة استكشاف النفس وما تملك.
إنّه فتح الله.
بدأت أدخل أيقوناتي الجديدة التي لم أكن لأدخلها يوماً بنظامِ تشغيلٍ قديم..
كنت أراها مجرّد رموز عادية لطالما قلّبتها، تفحّصت شكلها الخارجي لا أكثر..
لم يعد القرآن كتاب الله المقدّس وحسب لقد أصبح بفتح وتأشيرة من الله عز وجل هو الباب الذي أدخل عبره إلى حديقتي السريّة كما "ماري" في الرسوم المتحركة، تلك الحديقة التي أرى بها سعادتي، متعتي، أحلامي، خلوتي، سكينتي، علمي، شغفي، أحبابي، والأهم أنّي أرى كلام الله عز وجل عن قرب وأبحث به بكل ثقة وشوق إلى الاكتشاف والاستكشاف..
شكراً لذلك الجواز الذي سمح لي بالدخول والتعرّف إلى أيقوناتٍ جديدة لم أكن أعرفها كما الآن: الله، أنا الإنسان، القرآن، الصلاة، الإيمان، العلم، الحياة، الموت..
شكراً وحمداً لله عز وجل لمنحي تلك التأشيرة التي جعلتني أتلمّس أيقوناتي فعلياً وأعيش تجربة التغيير عن قرب..
كم نحن بحاجة لتلك الفرصة وذلك الجواز وتلك التأشيرة إلى نفس وأعماق كلٍّ منّا، أكثر من حاجتنا إلى تأشيرة الهروب إلى بلد آخر..
هذا لا يعني أبداً أن من اضطر للهجرة إلى بلد آخر قد كان مخطئاً!
على العكس، لكنّه اضطر لأجل أن يحتفظ بالفرصة..
فرصة الحياة، فرصة التغيير، فرصة البدأ من جديد، فرصة التعرّف إلى أيقوناته الحقيقية..
فإن كنت ممن اضطر للهجرة والاحتفاظ بفرصة الحياة فتأكّد أنّك بحاجة إلى جواز سفر آخر لا يشبه جوازك الذي سافرت به، وإلى تأشيرة دخول من الله عز وجل إلى نفسك وأعماقك لا تشبه تأشيرة سفرك..
فابدأ رحلتك الذاتية واكتشف معنى التغيير الحقيقي لا بالأرض والوطن بل التغيير الذاتي الذي لا يمكن أن ترى نتاجه إلّا في بلدك مسقط رأسك ولو حتى عن بعد وعبر الأقمار الاصطناعية..
نتاجه لن يكون إلّا للوطن ومهما بعدت المسافات وطال الزمن..
فلا يمكن للحلم أن يتحقق إلا بلغته الأصلية
نفسي ساحة للقتال لأجل بقاء هذا الحلم
ساحة للصراع لجعله واقعاً ملموساً
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.