يلتفُّ أهالي الرياض حول جثته الملطخة بدماء الغدر، مصدومين بالفاجعة، مغبونون من اغتيال إمامهم المحبوب، لقد قُتل تركي بن عبد الله على يد الرقيق حمزة، بتحريض من ابن أخت المغدور مشاري بن عبد الرحمن، غادر الإمام شعبه في لحظة تاريخية رمزية، فقدره ألا يشهد النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري. جثمان القتيل مسجى أمام الجامع وسط الرياض عاصمة الدولة السعودية الثانية، في آخر يوم في العام 1249هـ (1834م)، أجهز عليه القاتل بعد خروجه مؤدياً صلاة الجمعة. يا لرمزية اللحظة..
في الغد سيبدأ النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري وتبدأ معه مرحلة جديدة بأبطال جدد، سيحكم الغادر مشاري أربعين يوماً فقط ثم ينقض عليه عبد الله بن رشيد -الذي وصفه مؤرخ المرحلة عثمان بن بشر بالليث الهمام- ويقتله فيمكّـن فيصل بن تركي من استعادة حكم والده (فيصل هذا جد الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة)، وسيكافئ فيصل صديقه عبد الله بن رشيد بحكم حائل وبهذا يكون ابن رشيد قد حقق طموحه الذي خرج لأجله منذ سنوات، إنها الفرص التي لا يقتنصها إلا من يستحقها.
وسابقا قدّم الحصين بن نمير الخلافة لعبد الله بن الزبير على طبق من ذهب، حيث كان الحصين قائداً للجيش الأموي في مقاتلة ابن الزبير في الحجاز بأمر من يزيد بن معاوية، إلا أن ورود خبر وفاة يزيد في الشام أثناء المعركة، دفع الحصين بالطلب من الزبير التوجه لدمشق، وتسلم زمام السلطة العربية من هناك بعد أن شعر بـ"الفراغ الدستوري" الذي يهدد استقرار الأمة، فرفض ابن الزبير بغلظة مغادرة مكة مما دعا ذلك القائد للقول "أدعوه إلى الخلافة ويغلظ لي المقال"، ويقال إن ابن الزبير ندم وحاول مصالحة الحصين، لكنها فرصة وليست فرصاً.
كثير من الأشخاص طمحوا في ارتقاء المجد، وقليل منهم تحقق لهم مرادهم، لأن النجومية بحاجة لفرصة، والفرصة بحاجة لاقتناص، والاقتناص بحاجة لحذر وحكمة، وقد يكون الحذر والحكمة هما ما كان يحتاجه أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي مكتسح قلوب الكثيرين في بلاد الشام في زمن مجده بالعام 1949م، وهو العام الذي شهد القبض عليه ومحاكمته محاكمة سريعة فإعدامه في عمر الخامسة والأربعين.
ويصف باتريك سيل في كتابه "الصراع على سورية" عدنان المالكي بقوله ".. كان شاباً متحمساً ذا شعبية هائلة بين إخوانه الضباط، وكان صوته وضحكته المتفجرة يسيطران على أي تجمع، يعتبر قائداً طبيعياً إذا حدث خلاف أو اختل توازن"، وفي قمة نجومية المالكي أفرغ في جسده عدة رصاصات انهالت عليه من الخلف أثناء حضوره مباراة في كرة القدم في دمشق كانت كافية لإيقاف حياته عند سن السابعة والثلاثين، ويقول سيل "إنه مهما تكن دوافع الجريمة، فإن تبعاتها المترتبة عليها كانت بعيدة المدى". ولم يغادر القلق سورية بعد مقتله خلال سنوات ثلاث، إلا في العام 1958م عند قيام الوحدة مع مصر.
ويبدو أن سطوع نجم في سماء لبنان كان يهدد مراكز نجوم آخرين، وعلى الرغم من شروع رفيق الحريري باقتناص الفرصة التي تحدثنا عنها في العام 2004، إلا أن شعرة معاوية التي قطعت بينه وبين خصومه السياسيين كانت كافية لاغتياله في العام التالي.
أما عبد الله بن رشيد فتمكن من تجاوز كل المراحل اللازمة لتحقيق الهدف، وهي اقتناص الفرصة والتعامل بحذر وحكمه مع تبعاتها، حيث لم تنتهِ المهمة عند توليه سلطة حائل في العام 1250هـ (1834م)، بل اضطر في العام 1252هـ (1836م) إلى مغادرة الإمارة للصحراء في اختباره السياسي الأول، لما أدرك تكلفة مقاومة الحملة العثمانية العائدة إلى نجد، والتقى بعد حين قائدها خورشيد باشا في المدينة المنورة وتفاوض معه وطلب عونه في العودة إلى إمارته، واستطاع عبد الله بن رشيد أن يكسب ثقة خورشيد باشا فعاد حاكماً لإمارته التي استمرت تسعين عاماً، ويقول خورشيد في رسالته للقيادة العثمانية مستأذنا في إعادة ابن رشيد للحكم "..أن يكون حليفك قوياً، خير من أن يكون ضعيفاً".
عديد من الأشخاص لديهم قدرات القيادة، وبعضهم تتاح له الفرصة، والقلة منهم يغتنمها ويبدأ في سلوك الطريق إلى المجد، وأقل القلة من يسير بحذر وحكمة لحين اعتلاء ذلك المجد والمحافظة عليه إلى أن يشاء الله.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.