يحكى أن: لماذا يفعل الأموات بنا ذلك؟

"مساء الخير يا أستاذ نوّار إزي حضرتك"، لكن الأستاذ نوّار رد بتجهم شديد "نعم"، "أنا آسف إذا كنت قد أزعجتك، لكن هل يمكن أن تنادي والدتي؟ أريد أن أتحدث معها"، لكن نوّار قرر أن يوجه ضربة قاضية "أمك ماتت"، "يمكن باتصل متأخر أنا آسف بس إذا ممكن أكلمها"، "أمك ماتت"، "هي مريضة ولا حاجة"، "أمك ماتت"، "طيب ممكن أكلم اي حد من البيت عندنا".

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/18 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/18 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش

قرر إبراهيم أن يضحي بعامه الدراسي بكلية الهندسة بالإسكندرية، ليواصل العمل الذي التحق به في عطلته الصيفية، كان سعيدًا بالفرصة التي أتيحت له دون الكثير من أقرانه الذين لطالما تمنوا السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، العمل صعب لكن عطلة نهاية الأسبوع مع الأصدقاء الجدد بوسعها أن تنسيه المشقة.

رن جرس الهاتف في أحد الأيام، استبشر إبراهيم خيرًا وتأمل أن يكون الاتصال من مصر، رغم صعوبة ذلك في هذا الوقت من أواخر السبعينيات من القرن الماضي.

رد إبراهيم على الهاتف، جاءه صوت قريبه من بعيد جافًا خشنًا مفاجئًا دون أي تمهيد: "اسمع يا إبراهيم.. أمك ماتت"، انقبض صدره، شك في أن المتصل قريبه الذي يعرفه، ولم يصدق الخبر، ظن أنه ليس هو المقصود بالاتصال، أو أن قريبه إنما يقصد أمرًا آخر، لعلها مريضة مثلا، كل الاحتمالات واردة إلا أن تكون قد رحلت وهي في الخمسينيات من عمرها، إنه متأكد أنها ما كانت لتفعل ذلك وهو في غربته، لكن قريبه أجاب بحمق أكثر: "لا لقد ماتت أمك"، ظل إبراهيم ممسكًا بالهاتف للحظات ثم سقط على الأرض مغشيًا عليه، ليُنقل إلى المستشفى، ثم لاحقًا يخرج منها ويبقى أسير الصدمة شهورًا طويلة، صائمًا عن الكلام، لا يحدث أحدًا.

نوّار كان رجلا غريبًا للغاية، كان يسكن فوقنا وهو صاحب هذه البناية ذات الطابقين في مدينة طنطا، وكان يرانا أيضا غرباء ككل أهل القناة الذين تم تهجيرهم إلى مدن الداخل، لكن أظن أنه كان أكثر منا غرابة، وقد تعودنا صباح كل يوم باستثناء يوم العطلة، أن ينزل من بيته ثم ينادي ابنه: "يا نادر نزل الجرنان في السّبَت"، وعادة ما يتمرد الابن فيبقى الأستاذ نوار مصرًا على الصياح حتى يستجيب أحد من عائلته، ولا أنسى أنه في إحدى المرات نزل من شقته وطرق باب بيتنا بعنف، فتح له والدي فقال له الأستاذ نوّار بحدة شديدة: "أنتم مش بني آدميين"، تسمر والدي قبل أن يكمل نوّار حديثه: "أنتم ملائكة".

كنت جالسا مع زوجتي في غرفتنا التي نعيش بها في الطابق السابع بأحد أحياء فرانكفورت، وقد مضى على عرسنا حوالي ثلاثة شهور، كنت أنتظر بفارغ الصبر عيد الأم لأتصل بأمي وأهنئها، لكن لسبب لا أعرفه، قررت أن أهاتفها في مساء هذا اليوم المسمى بالسابع عشر من مارس لعام ثمانية وثمانين، في زمن لم تكن الهواتف النقالة قد اختُرعت، ولا خطوط الهواتف قد امتدت إلى كل البيوت في مصر، أدرت قرص الهاتف لأتصل بالأستاذ نوّار، وكانت الساعة تشير إلى ما قبل العاشرة مساء بتوقيت القاهرة.

"مساء الخير يا أستاذ نوّار إزي حضرتك"، لكن الأستاذ نوّار رد بتجهم شديد "نعم"، "أنا آسف إذا كنت قد أزعجتك، لكن هل يمكن أن تنادي والدتي؟ أريد أن أتحدث معها"، لكن نوّار قرر أن يوجه ضربة قاضية "أمك ماتت"، "يمكن باتصل متأخر أنا آسف بس إذا ممكن أكلمها"، "أمك ماتت"، "هي مريضة ولا حاجة"، "أمك ماتت"، "طيب ممكن أكلم اي حد من البيت عندنا".

سمعت خربشات تنم عن أن اليد الممسكة بالهاتف تهتز، "أيوه يا أسعد " قالها زوج أختي بصوت مرتعش وهو يبكي، غير أني كنت مصرا "طيب انقلوها المستشفى"، "خلاص يا أسعد خلاص"، بهدوء أعطيت لزوجتي الهاتف لتكمل الحديث مع نعيم، ونزلت أنا على الأرض كما الساجد، وبقيت أحفر برأسي السجادة التي تغطي أرضية الحجرة، تملكتني رغبة شديدة في أن أختبئ، وددت لو تنشق الأرض فتخفيني تمامًا عن الوجود.

ما أن أفقت حتى أدركت لماذا ظلت في ذهني صورة إبراهيم وهو يتلقى الصدمة، لماذا بقيت قصته حاضرة في ذاكرتي لأسباب لم أكن أعلمها حتى تكررت معي. ولسنوات ظللت في حاجة إلى تصديق الخبر، إلى أن وصلت يومًا إلى طنطا، مررت وأنا في الطريق إلى أمي بأعز صديقاتها، قالت لي: "لم تكن لتترك فرصة أو مناسبة إلا وتوصينا بك، كنت أقول لها لايزال العمر أمامك يا أنيسة وأنت مازلت في الخمسينيات".

ما أن مررت ببوابة المقابر حتى كدت ألتفت إلى أختي ألومها لماذا تركتموها هنا، لكن عند باب مرقدها أدركت أنها فعلا رحلت، غير أني كنت في النزع الأخير من الأمل، تخيلت أنها ستقوم من رقدتها إذا ما سمعت صوتي كما كانت تفعل دائما، لم أشعر بحاجة يومًا إليها إلا وكانت حاضرة، تؤدي دورها دون ملل ولا كلل، هي رهن إشارة كل من بحاجة إليها قريبًا كان أو جارًا.

صديقي الأعز أحمد يونس، سويسي يسكن مثلي الإسكندرية، يكبرني عمرا لكن الود والفكر يجمعنا، كان موجودا بالسويس عندما وصلتها لقضاء يوم واحد، فكرت أنه لا داع لزيارته وساعات بقائي في المدينة قليلة وأمامي طريق طويل للعودة إلى الإسكندرية، لكني قررت المرور به سريعًا.

تحدثنا طويلا كعادتنا، وعندما قررت المغادرة، قام على الفور لتوديعي بحرارة، ثم عناق وقبلات، وظل واقفًا أمام شقته وعلى سلم البناية حتى غادرتها وأنا مندهش، لماذا يفعل أحمد ذلك؟ إن علاقتنا لا تحتمل هذه المجاملات وهو في كل الأحوال سيأتي بعد عدة أيام إلى الإسكندرية، هل أخطأت في حقه في أمر ما وأراد أن يقول لي إن علاقتنا باتت رسمية؟

طرق الباب بشدة قبيل الفجر، قمت منزعجًا فوجدت رجلًا عجوزًا يعمل موظفًا عند أحمد يقف عند الباب، سألته ما بك؟ فأجابني: "أحمد مات يا أسعد بيه"، خرجت عن أدبي بعد أن ظل يكرر العبارة، وسألته: "هل أنت مخمور؟"، فعاد ليكرر نفس العبارة: "أحمد مات.. أحمد مات".

لم أتحمل أن أدخل إلى مستشفى كفر الدوار كما فعل الإخوة لمشاهدة جسده مسجيًا فيما كان سائقه راقدًا في المستشفى بعد أن نجا من الحادثة التي أودت بحياة صديقي، ومن هناك قدت سيارتي إلى السويس ضمن موكب مهيب لدفن أعز الأصدقاء، كانت الدقائق تمر بقسوة شديدة، منذ أن وصلت لأرى السرادق مقامًا في شارع الشهداء، إلى أن احتضنني أخوه الأكبر ما أن رآني صائحًا: "أحمد فين يا أسعد؟ أحمد فين؟"، إلى أن صلينا عليه في مسجد الشهداء، إلى أن انتهت مراسم الدفن. كان الأصدقاء يعزونني كأهل الفقيد تمامًا، غير أنني قضيت ساعات العودة في الطريق إلى الإسكندرية وأنا أرتب أفكاري، كيف سأحكي له في الغد الحكاية عندما أراه، كيف سأصف له ما جرى، وكأنه ما جرى.

هل تصرف أحمد بعفوية عندما ودعني وداعًا حارًا؟ وهل تصرفت أمي بعفوية عندما أعدت لي فنجان القهوة وودعتني بحرارة عند الباب، ورفضت أن تخرج إلى الشرفة لتلقي نظرتها الأخيرة عليّ واكتفت بالاحتفاظ بفنجان القهوة الذي احتسيته في مكان بارز بالمطبخ كآخر أثر لابنها في البيت؟ أم كانا كلاهما يريدان عقابنا بطريقتين مختلفتين بلوعة الوداع الأخير؟

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد