رسالةُ مختفٍ قسريًا من محبسه

بعد فترةٍ يعلمُ اللهُ مداها, بعد عذابٍ لا يعلمه إلا الله, بعد أن أُغْشِيَ عَلَيّ مراتٍ, وكِدتُ أن أموتَ مِنَ الألمِ مراتٍ أكثر, انهرتُ تمامًا, صِرتُ شبحًا حقيقيًا, صرت أهذي وأرتعد, صرت كالمجذوب, أَنْزَلُونِي حينها ووضعوني في هذه الزنزانةِ التي لا يَصِلُهَا الضوءُ ويَصِلُها بصيصٌ من الهواءِ, حتي الهواءُ هنا يسلبوكَ إياه, أنت شبحٌ لا إنسان, لن تحتاجَ للهواء إذن.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/17 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/17 الساعة 03:40 بتوقيت غرينتش

1

وحيدًا أبقي هنا، لا أنيسَ سوى الله، على ما أظن.

لا أدري سببًا لما حدث، كل محاولاتي لإسباغِ بعض المنطقِ على الوقائعِ التي نزلت بي في الأيامِ الفائتةِ باءت بالفشل, كل محاولاتي للإقتناع أن هذا ممكنٌ, جائزٌ, قد يحدث لأي شخصٍ, باءت بالفشل أيضًا.

دائمًا عندما كنت أسمع عن مصيبة أصابت أحدهم كنت أظن أني بِمَنْأىً عنها, هذه الأمور تحدث للناس ولكنها بالتأكيد لن تختارني أنا بالذات, ولكن اتضح أني عاديٌ, أنا ككل البشر, تنزل بي أفظع المصائب, كمصيبتي هذه.

أصعبُ ما في المصائبِ زوالُ الأملٍ, والأصعبُ منهُ هُوَ التمسكُ بهْ.

2

عائدٌ من سهرةٍ مع الأصدقاءِ سِرتُ وحيدًا وعيناى مُعَلَقَةُ بالنيل, فاتنةٌ هي القاهرةُ حِينَ تخلو من البشر. كلُ الذكرياتِ تلتفُ حولي حين الوحدة, تحاصرني وتنهشني, أراوغها فتراوغني, أحاول أن أكون أذكى منها فلا أستطيع, الذكرياتُ دائمًا أذكي منّا.
وأحيانًا أظن أن الأمر متعلقٌ بأننا نريدُ التَذَكُرَ لا أكثر, ولكننا نُنكرُ, فنتذكر, فندّعي الإستياءَ ونحنُ فَرِحُون.

مررت بشارعٍ جانبيٍ لا أحد فيهِ غيري وشخصٌ أخرٌ سمعته يسير ورائي, كل شئٍ مسموعٌ هنا حتي دبيبَ النملِ, أُحِبُ هذا الهدوءَ المقدسَ وأكرهُ من يعكرونه. صوتُ الخُطُوَاتِ ازدادِ عُلُوًّا واقترابًا, استأتُ منهُ, فأسرعتُ الخُطَى فأسرَعَتِ الخُطَى نَحوِي, أَصبَحَت خُطى عددٍ من الأشخاصِ لا شخصٍ واحدٍ, اقتربوا حتي صرت لا أُمَيِزُ وقع خُطُوَاتِي من خُطُوَاتِهِم, وفجأة الّتَفَت بعضُ الأيدي حولي, لم أقوى علي الصراخ, كانوا أكثر وأقوى, غطّوُا فمي وعيناى وأنهكوني ضربًا ثم جرّوني إلي سيارةٍ واقتادوني إلي هنا, ذاك المكانُ الذي لا أعلمُ هل سأخرجُ منه أم لا.

3

متعجبٌ, منهكٌ, متوجسٌ, مرتعدٌ, خائرٌ, خائف, هكذا كنت في السيارة.
لم أسأل عن الوجهةِ, ولم يتكلم أحدٌ منهم حتي وصلنا, فاقتادوني معصوبَ العينينِ إلي هُنَا.

بدأت طقوسُ الإستقبالِ الرسميةِ, لا سجاداتٍ بالغةُ الطولِ حمراءُ اللونِ هَاهُنَا, فالإستقبالُ هُنَا يختلف.

خَمّنْتُ عندَ الدخولِ أينَ أنا, أنا في معتقلٍ مجهولٍ, قد أكونُ تحتَ الأرضِ بأدوارٍ عديدةٍ, وقد أكونُ في برجٍ عالٍ, لا فرق.
لا أحد يعلم أني هنا سوي هُم, وأنا والله المحتجبُ في عليائه.

4

أنتَ هُنَا كحيوانٍ أو أقل, أنت فأرُ تجاربٍ أمام علماءٍ مهاويسٍ بالعلمِ, أنت هنا في مرتبةٍ أحطُ من الجماد, أنت هنا والعدمُ سواء.

تخيل ما أقسي أنواعِ العذابِ التي قد يَتَعَرَضُ لها الإنسان؟ التعليق؟ الصعقُ بالكهرباء؟ الحرقُ بالنار؟ منعُ النوم؟ الإعتداءُ بكل أشكالهِ؟ ما يحدث هنا هو كل هذا ولكنه مضاعفٌ.
مضاعفُ الكراهيةٍ والغلِ, مضاعفُ الرغبةٍ في الإذلالِ وانتهاكِ كلِ شئٍ, باختصار, يريدونني أن أخرج كشبحِ إنسانٍ, شبحٌ بلا إنسانيةٍ, بلا عواطفٍ, بلا قدرةٍ علي الحبِ أو العطاءِ, بلا قدرةٍ علي التفكيرِ, شبحٌ ذليلٌ يخافُ أن يرفعَ رأسهُ لِيُطَاوِلَ رؤوسهم مرةً أخرى, كلُ هذا إن تركوكَ تخرجُ أصلًا, صَدِقَنِي, الموتُ هُنَا أَفضَلٌ مِنَ الخروجِ.
لم أعلم ما التهمةُ الموجهةُ إليّ أو ماذا يريدون مني, أسئلتهم ضَلًتْ طريقها إلى أُذُنِي من فرطِ التعذيبِ, فَقَدتُ القدرةَ علي عدِ الأيامِ هنا وهذا أمرٌ مهمٌ بالنسبة إليهم, أن تفقد الإحساسَ بكلِ شئٍ.
أخبرني أَحَدُهُم أنّي هنا منذُ شهرٍ, صُعِقتُ في البدايةِ, شهرْ؟! لا أظنُ أنّي تَخَطَيّتُ أسبوعًا!
كانت لُعبَةً نفسيةً حسبما أظنُ, عملياتِ تحويلي إلى شبحٍ تسيرُ سيرًا حثيثًا.

بعد فترةٍ يعلمُ اللهُ مداها, بعد عذابٍ لا يعلمه إلا الله, بعد أن أُغْشِيَ عَلَيّ مراتٍ, وكِدتُ أن أموتَ مِنَ الألمِ مراتٍ أكثر, انهرتُ تمامًا, صِرتُ شبحًا حقيقيًا, صرت أهذي وأرتعد, صرت كالمجذوب, أَنْزَلُونِي حينها ووضعوني في هذه الزنزانةِ التي لا يَصِلُهَا الضوءُ ويَصِلُها بصيصٌ من الهواءِ, حتي الهواءُ هنا يسلبوكَ إياه, أنت شبحٌ لا إنسان, لن تحتاجَ للهواء إذن.

5

بقيتُ مُمَدَدًا على أرضِ الزنزانةِ أمدًا لا أعلمه, لم أتحرك قيدَ أُنمُلَةٍ, عاجزٌ تمامًا عن كلِ شئٍ.
آلامُ الجسدِ لا حصرَ لها, وآلامُ الروحِ أقسى وأضلُ سبيلًا.
عدميةٌ مطلقةٌ تتخللني فتهزني هزًا, أنا لا شئ, أنا عدمٌ, أنا أقلُ من العدمِ إن كانَ هُناكَ أمرٌ كذلك.
لم أقدر علي شئ سوي مناجاةِ الله, ناجيتهُ سِرًا لأن شفتاىَ متيبستانِ, ولأني أخافُ أن يسمعونني فيعودوا إلي تعذيبي, الأسلمُ أن أجعلهم ينسونَ وجودي, التعفنُ هنا خيرٌ من الرجوعِ إليهم.


أَسْرَرّتُ إلي اللهِ بكلماتي
, أى رب, أعلمُ أنك كُنتَ ثالثَ اثنينِ إذ كُنًا في غرفةِ التعذيبِ, تذكرتُ قولَ النبيّ لأبي بكرٍ فحاولتُ أن أُهَدِئ من روعي, فلم أهدئ.
تذكرتُ بلالًا وهو يُجَرُ علىَ رملِ صحراءِ مكةً وصخرةٌ عملاقةٌ تُلهِبُ صَدّرَهُ العاري, فأحاول أن أقولَ أحدٌ أحد فتختنقُ الكلماتُ في صدري, ولا أستطيع.

أى رب, هناك شعرةٌ باقية بيني وبينَ أن ينجحوا في تحويلي إلي شبحٍ, إنها إيماني بك.

أى رب, أعلمُ أن الإبتلاءَ واجبٌ للإختبارِ, وعَظَمَتِكَ أعلمُ كُلَ هذا, ولكنّ الأمورَ تفقدُ كل معنيً ومنطقٍ حين يحدثُ ما حدث.
أى رب, لم تتدخل فَتُوقِفَهُمْ, كُنتُ أَتَفَهَمُ هذا قبلَ أن يحدثَ لي, بالتأكيد لن تتنزل من عليائِكَ لإنقاذِ كلِ مكروبٍ, ولكنّي أصبحتُ هذا المكروبَ وودتُ لو تَنَزَلتَ, أو نزل أحد الملائكة المقربين, أو تنزلت رَحَمَاتُكَ بأي شكلِ, ولكن لا شئ, احتجبت عني وتركتني لهم.
أى رب, فَعَلُوا كُلَ شئٍ أَمَامَكَ, كُنتَ هُنَاكَ, موجودًا, تراهم, كُنتَ كحبلِ الوريدِ قربًا, وتركتهم, لا أُدرِكُ المعني, فأشُكُ في عَدلِكَ, فأعدلُ عن غيّي وأقولُ أن المظالمَ تعودُ في الأخرةِ, ولكن أين أنا والأخره؟ أُدرِكُ أن تغيير الحال واجبٌ علي البشرِ لا عليكَ, وأُدركُ أن أساسَ اللعبةِ يَكمُنُ في تركنا نلعبها بحياديةٍ لاختبارنا, أدرك كل هذا, أو قُل, كنت أدركه. الأن لا أرى سواي معلقُا وأحدُ الكلابِ ينهشني, فأعود لا أُدرِكُ المعني, وتفقد كل المعاني قيمتها, فأحاولُ مَنّطَقَةَ الأمورِ فأقولُ بعدمِ وُجُودِكَ, بالتأكيد لن تسمح بهذا إن كُنتَ موجودًا, فأُجنّ, إذا لم توجد لن يُصبِحَ لأي شئٍ معني, هم بلا معني, وأنا بلا معني, وما حدث لي ليس بذي قيمةٍ, فأهُز رأسي هزًا كأني أريدُ إيقاعَ هذه الفكرةِ المرعبةِ من رأسي, فتباغتني كما الذكرياتُ اللعينةُ, وهُم كالعادةِ أذكى, فأزدادُ إحساسًا أني عدٌم, أو أقلُ قليلًا.

6

أظنُ أنهم نَجَحُوا في تحويلي إلي شبحٍ, لم أحادثِ اللهَ منذُ أيامٍ, فقد تَأَخَرَالردُ وأنا ممن وَصَفَهُمِ اللهُ قائلًا: "إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً", قد أكون مخطئًا وقد أكون مصيبًا, لا فرق, أنا شبحٌ ولست إنسانًا, ولعلَ ما قاسيتُه يشفع لي يوم العرض, إذا كان هناك عرض, فأنا رُغم يقيني أن الإيمانَ هو الذي يُبقِي بعضًا من توازني قد أقلعت عن الإيمان بأي شئ, فالأشباحُ لا تؤمن, وأنا لستُ كبلالٍ بنُ رباحٍ, وهم نجحوا.


أُهديها إلي المختفين قسريًا في كل مكان, إهداءٌ قد يؤثر ولو تأثيرًا ضئيلًا للغاية, لا يكلف الله نفسًا إلا وٌسعها.

القصة من خيال المؤلف.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد