لم أكنْ أعتقدُ يوماً أنّني سَأُغادر دمشق، كنتُ مؤمنةً كلّ الإيمان أنَّ حياتي بدأتْ لتنتهي فيها، وأنَّ استقراري في تلكَ البلاد، إنّما هو قدري الذي لا مفرّ منه..
لمْ يحدُث أن التقطتُ صوراً لي فيها، كنتُ دائماً على يقينٍ تام بأنّني لن أغادرها، وأنّنا لا نلتقطُ صوراً إلاّ لأماكنَ نزورها مؤقتاً ونحنُ على علمٍ بأنّنا لن نعودَ لها مجدداً.
كانتْ فكرةُ مغادرتي لها مستبعدةً تماماً، وأنَّ شاهدةَ قبري سَتكونُ على ترابها الطاهر لا محالة.
إلى أنْ دقّتْ الحربُ نواقيسَها.. واشتعلتِ الثورةُ في سوريا، وبعدَ عامينِ من اندلاعها، وبعدَ معاناةٍ من التهجير والملاجئ والقصف والخوف والرعب، جاءَ قرارُ العائلة المفاجئ بالسّفر.
خلالَ أسبوعٍ واحد، تمّتْ لملمَةُ ما يكفينا من ثيابٍ وأغراضٍ لمدّةِ شهرين وحسب.
تركنا خلفنا كُتبنا، ذكرياتنا، ألبوماتِ صورنا، هدايانا، أشياءنا الصغيرة والكبيرة، حملنا دمشق في قلبنا وغادرنا، على أملِ العودة لها بعدَ شهرينِ أو ثلاثة.
لِنجدَ أنفُسنا قدْ تجاوزنا العامين ونصف، في تسارعٍ زمنيّ متلاحق.
حطَتْ الطائرة في الجزائر العاصمة، وبعدَ مرورِ شهرين على مغادرة سوريا، أصبحَ الاقتناعُ بفكرةِ (عدم العودة) لها في الوقتِ الرّاهن، أمراً مفروضاً، لِأقع في أوّلِ مطبٍّ نفسيّ صعب، ولِتبدأ مشاكلي في الاندماج مع مجتمعٍ مختلفٍ تماماً عمّا كنتُ فيه.
ما زلتُ أذكرُ للّحظة، ردّةَ فعلي الغاضبة أمامَ سؤالٍ عفويّ من سيّدة جزائرية – بعدَ أربعةِ أشهرٍ من إقامتي فيها..
– هلْ أعجبتكِ الجزائر؟
مَا الأجمل في نظرك.. سوريا أم الجزائر؟
لمْ تعلم تلكَ السيدة أنّها سألتني في التوقيتِ الخطأ، وأنّ حالتي النفسيّة آنذاك جعلتْ من ردّة فعلي محطَّ دهشةٍ واستغراب منها ومن كلّ مَن كانَ معنا حينها، أجبتُها بانفعالٍ حادّ، عينينِ منتفختين من آثارِ دموعٍ سابقة وقلت:
– "سوريا أجمل بكثير ولستُ سعيدةً هنا، وقريباً جداً سَأعود".
"قريباً جداً" تلك، كانتْ كَمُخدّرٍ أضحكُ بهِ على نفسي، كنتُ أعلمُ تماماً أنَّ عودتي مستحيلة مع اشتعالِ الأوضاعِ..
وذهابِ سوريا إلى نفقٍ مظلمٍ يصعُبُ الخروج منه بسرعة.
لِذا كانَ من الضروريّ لي أنْ أندمجَ سريعاً في مجتمعي الجديد هذا، وأنْ أحاولَ قدرَ الإمكانِ فرضَ نفسي وأفكاري، وإلاَّ سَأبقى مُهمشّة، أعيشُ على الأطلال، وأحلمُ بالعودةِ البعيدة المدى..
كانتْ فرصة البحث عن عمل هي خطوتي الأولى، وإنْ جاءتْ متأخرة بعدَ عامين، إلاّ أنّها بالنسبةِ لي كانت ضروريّة لِأتحدّى نفسي أمامَ نفسي وأمامَ الجميع..
منذُ اليوم الأوّل واجهتني مشكلة:
"كيفَ أفرضُ نفسي في مجتمعٍ يختلفُ عمّا كنتُ فيه، وكيفَ سَأتعاملُ مع زملائي في العمل بطريقةٍ تجعلني أكسبُ الجميع دونَ أنْ أخسرَ أحداً".
في البداية، بدا لي الأمرُ سهلاً نوعاً ما وأنّه سيقتصرُ على السّلام والابتسام وتجنّب الحديثِ في الأمورِ الشخصيّة والخاصة، إلى أنْ وضعتني الحياة أمامَ مواقفٍ جعلتني أتّخذُ قراراتٍ مهمة في تعامُلي مع من حولي والتي بدأتُ بتنفيذها منذُ الشّهر الأول لي في عملي الجديد.
من ضمن هذه القرارات:
– أن أقتربَ من الناس بدلَ اعتزالهم واعتبار نفسي غير معنيّة بأفكارهم وعاداتهم، معَ الاحتفاظ بما يقولُه لي عقلي، وما تربيتُ عليه، ومعَ تشبثي بالمبادئ التي آمنتُ بها.
– أنْ أبتعدَ عن ردّات الفعل السريعة، وأنْ أكونَ أكثرَ حِلماً، وأن أعدّ للعَشَرة قبلَ أنْ أغضب، حتى لا يتكرّر معي ذاتُ الموقف الذي حدث مع تلكَ السيدة.
– أن أتّخذ من كلّ تجربةٍ تمرُّ بي عبرة سواءَ أكانَ الموقفُ ذا قيمة أم كان موقفاً عادياً .
– أن لا أكونَ لقمةً سائغة أمامَ الاستفزازات التي أتعرضُ لها، وأن أظلَّ مبتسمة مهما حاولَ الجميعُ تعكيرَ صفو ابتسامتي.
أن أعملَ بصمت، وأتجاوبَ مع مَنْ حولي برقيّ، وأن أحترمَ الجميع وأحبّ الجميع وكأنني أراهُم للمرة الأخيرة في كلّ مرةٍ ألتقيهم.
– أن أكونَ أكثرَ هدوءاً وأكثرَ صبراً وأن أتجاهلَ أيّ كلمةٍ قد تؤذيني تحتَ أيّ سببٍ كان.
– أن أكونَ أكثرَ قوة وأن أعملَ كلّ ما يُمليه عليّ ضميري وأخلاقي.
– أن أكونَ دقيقة في مواعيدي، وألاّ أفرضَ أفكاري على أحد وأن أجادلَ بالتي هي أحسن وأنْ أجعلَ الجميع يدعو لي، لا عليّ.
– أن يكون الإحسان شعاري والإتقان هدفي.
أنا الآن أشعرُ براحة ورضىً كبيرين عن نفسي وعمّا أقدمه، وأعلمُ أنّ الأيام تخبئ لي الكثير من المفاجآت والمواقف والتجارب، ولكنني على يقين أن أي أحد فينا قادر على تخطي أي موقف يواجهه وأي مشكلة تعترضه، إن تحلّى بالحكمة والصبر والعقل، والاتّزان والمرونة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.