في السابق، لم يكن بمقدورنا إسماع أصواتنا للآخرين والتعبير عما يدور بدواخلنا، حينها كنا نخاف الإفصاح عن أفكارنا وآرائنا في الشوارع والأزقة والفضاءات العمومية، بداعي أن لجدرانها آذان تسترق بها السمع، فنضطر للاحتفاظ بكل ما نحس حتى تنتهي مدة صلاحيته تدريجياً بداخلنا.
لم نعش آنذاك ثورة رقمية كما تشهدها اليوم مواقع التواصل الاجتماعي، كي نلجأ إليها من حين إلى آخر كبديل لننشر على صفحاتها ما نحس ونشعر به وما نريد قوله دون قيد أو شرط.
لم أتذكر أنه في يوم من الأيام حين كنت أدرس بالمرحلة الابتدائية والإعدادية، خرج لنا أحد المسؤولين عن قطاع التربية والتعليم بقرار "تاريخي" يتعلق بضرورة برمجة الأنشطة الموازية للحصص الدراسية، نتعلم من خلالها فن المسرح والغناء وتلقين دروس في الموسيقى أو مزاولة فن الرسم وغيرها من الفنون كوسائل تعبير عن الذات وإبرازها واكتشاف المواهب الحبيسة فينا التي تنتظر فقط الكشف عنها، باستثناء بعض المناسبات التي تُلزم إدارة المؤسسة على برمجة حصص استثنائية للقيام بتدريبات لأداء لوحات فنية موزعة بين مجموعة من المستويات التعليمية احتفالاً بالأعياد الوطنية.
لم نكن نتجرأ يوما لإفصاح عن أشياء عديدة لا تروقنا في الغالب فُرضت علينا داخل أوساطنا الأسرية والمحيط الذي نعيش فيه، كنا نخاف حينها من صفعات الآباء التي قد تأتينا من حيث لا نشعر كردة فعل، وُظفت أيضا في حقنا كثيرا عبارة "حشُومَة" خلال ممارستنا لمجموعة من السلوكيات، ولم تُعطَ لنا للأسف تفسيرات واضحة لماذا وكيف، وما العيب في ذلك!
في تلك الفترة كنا أيضا نخاف أن ننطق بعبارة "لا" في الكثير من الأمور ورفض مجموعة من السلوكيات التي مورست علينا تحت ذريعة التقاليد والعادات والتي جعلت منا فيما بعد جيلاً مريضاً وعقيماً، ويُعيد إنتاج العاهات الاجتماعية والنفسية ولا يطرح الأسئلة المشككة التي تبحث لها عن أجوبة معقولة توافق المنطق وتجانب الصواب.
من سبقونا كانوا يخافون من لعنة مفتعلة وهمية، تطاردهم في أذهانهم أينما حلوا وارتحلوا، هم أيضا ورثوا ذلك الخوف ممن سبقوهم ولم يطرحوا بدورهم تلك الأسئلة المشككة، ضرباً بالاعتقاد بأشياء لا تستند إلى منطق وتحليل علمي عرض الحائط، فقط اعتمدوا في ذلك على الصدفة في حالة إذا ما أصيب أحدهم بمكروه بقضاء وقدر، كان قد شكك في صحتها ورفض توظيفها أو الاعتقاد بها، ليُصنف بذلك من المغضوب عليهم والعاقون فتُروى حكايته وما لحق به لمن يأتي من بعده، وتُأخذ كقاعدة يتم تداولها بين الناس لعقود من الزمن.
لم نقف يوما في وجه من جربوا فينا أساطيرهم ورحلوا عنا وتركونا نعيش وسط مجتمع يؤمن أشد الإيمان بالخرافات وببركات الأولياء الصالحين والقبور والأضرحة المنتشرة هنا وهناك وما يحيط بها من طقوس تعبدية سنوية تُدر على أصحابها الملايين، كأرباح تجارة القرابين وصكوك الوساطة مع الله مسبوقة الدفع.
آنذاك، لم نكن نعرف أن الله ليس في عطلة ولا يحتاج إلى وساطة ومن كان منا يثور على كل تلك الأشياء كان يُنعت بالأحمق والعاق.. لمن إذن؟ للتقاليد والعادات..
باسم تلك التقاليد والعادات فقدنا القدرة على التفكير الحر والاستقلالية في الرأي، و رُزء العديد منا في أحلامه ودفع ثمن أخطاء الآخرين، ووضع الكثيرون منا حدا لحياتهم، خوفا من القيل والقال ونظرة المجتمع الحقيرة.
لحسن الحظ، نتوفر اليوم على الجيل الرقمي رواده وجدوا لهم الوسائل البديلة كي يتمردوا على كل تلك العادات العقيمة التي ما زال البعض منها يُسوق داخل المجتمع ويعرقل التطور الفكري والحضاري لأفراده كي لا يُعاد من جديد إنتاج العاهات الاجتماعية والنفسية!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.