قصصهم تهوّن همومنا

ما قيمة هذه الأمور أمام طفل حُرم من اللعب مع أقرانه، أو تعذّر عليه مرافقتهم إلى المدرسة لسبب لا يمكن لعقله الطفولي ان يفهمه،و يستعصي على طفولته أن تقبله. ما قيمتها أمام فتاة في مقتبل العمر وقفت ذات صباح امام المرآة فلم تجد شعرا تمشطه؟! ما قيمتها أمام امرأة فقدت جزءً من جسمها طالما ارتبط في وجداننا بأنوثتها؟! ما قيمتها أمام مريض سلبه الكيماوي صحته وعافيته، ومناعته ليتركه وحيداً يكابد الحمّى، ويتلوى ليله الطويل، متنظراً فجرا يخشى ان لا ينبلج.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/14 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/14 الساعة 04:45 بتوقيت غرينتش

تجربة فريدة، تلك التي يمنحنا إياها مركز الحسين للسرطان، بالاستماع إلى بعض المصابين، والناجين من مرض السرطان وهم يروون قصصهم من خلال مختلف القنوات الإعلامية والاجتماعية، حيث تتاح الفرصة للجميع للمشاركة في تفاصيل هذه الحكايات التي تعلن للملأ الرحلة التي مروا أو ما زالوا يمرون فيها، وكلهم إيمان وعزم وثقة بأن الله على كل شيء قدير.

وهذه التجربة أتاحت لنا فرصة نادرة لرصد النفس البشرية في مختلف حالاتها، في ضعفها وقوتها، يأسها وأملها، استسلامها و تشبثها بالحياة، لكنها في نهاية المطاف النفس المطمئنة لقضاء الله، الراضية بحكمه، الآخذة بالأسباب المادية.

هذه العناصر المعقدة، والمتناقضة في تكوين النفس البشرية، تؤدي إلى انتصار الإنسان في معركته مع الشدائد، ذلك النصر الذي وصفه توماس مان بهذه الكلمات "إن الصمود للقدر وملاقاة الشدائد بالابتسام شيء يعلو على معنى الصبر".

حقيقة، لا يمكن للمرء إلا أن يقف مشدوهاً عند الاستماع لأناس من أعمار مختلفة، وخلفيات متعددة وهم يروون معاناتهم، في رحلهم مع مرض صعب المراس، ومن فرط خشيتنا منه، لا نجرؤ حتى على ذكر اسمه فننسبه للمجهول بقولنا (ذاك المرض).

أطفال في عمر الزهور، وآخرون في ريعان الشباب، رجال ونساء بأعمار مختلفة خاضوا المعركة حتى حافة الانهيار، لكن إيمانهم، وعزيمتهم، والدعم الذي يتلقونه ممن حولهم: أمدهم بالوقود اللازم للاستمرار في هذه المعركة الشرسة، والإصرار على المضي قدماً مهما كانت النتائج.

وبعد الاطلاع على تجارب الآخرين ومعانتهم مع السرطان، فإن المرء لا يملك إلا أن يراجع نفسه، وأن يشعر بالخجل من بعض الهموم التي تنغص عليه حياته، وتسبب الكآبة للكثيرين منا، هذه الهموم التي تقتات أجسادنا، وتستنزف أعصابنا، وتسد علينا الفضاء، وتخنقنا حتى أصبحنا نتنفس، ونرى الدنيا من خلالها. فسرقت منا لحظات السعاده التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في زمن يفتقر إلى القليل من الفرح.

والسؤال الذي يلح علينا هنا هو: هل تستحق كل هذه الهموم، والتفاصيل اليومية الكثيرة الحيز الذي تشغله في حياتنا، وما قيمة هذه المنغصات إذا ما قيست بما عاناه ويعانيه المرضى من آلام جسدية ونفسية وروحية واجتماعية؟!

ما قيمة هذه الأمور أمام طفل حُرم من اللعب مع أقرانه، أو تعذّر عليه مرافقتهم إلى المدرسة لسبب لا يمكن لعقله الطفولي أن يفهمه، ويستعصى على طفولته أن تقبله. ما قيمتها أمام فتاة في مقتبل العمر وقفت ذات صباح أمام المرآة فلم تجد شعرا تمشطه؟! ما قيمتها أمام امرأة فقدت جزءًا من جسمها طالما ارتبط في وجداننا بأنوثتها؟! ما قيمتها أمام مريض سلبه الكيماوي صحته وعافيته، ومناعته ليتركه وحيداً يكابد الحمّى، ويتلوى ليله الطويل، متنظراً فجراً يخشى أن لا ينبلج.

هذه القصص ومثيلاتها تشكّل فرصة حقيقية لنا جميعاً لمراجعة الذات، وهي بمثابة جلسات علاج نفسي، ترينا تفاهة همومنا الصغيرة، التي تحتل مساحة واسعة من وجداننا وتستنزف طاقاتنا ووقتنا بحيث تأخذ من حياتنا أكثر مما تستحق.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد