لو كان اختراع آلة الزمن حقيقياً في العالم اليوم، لرأيتني أعود دون سابق تفكير إلى حقبة التسعينات الذهبية، التي أعتبرها من السنوات التي بلورت شخصيتي إلى حد كبير، وقدمت للعالم أجمع نماذج فريدة في الأدب والفن والثقافة عجزت الألفية الجديدة على مضاهاتها والقدوم على شبيهاتها.
في التسعينات كانت الحياة بسيطة بوجهها الرحب، بعيدة كل البعد عن الأرقام والحواسيب، فالعائلة السعيدة هي من يتسنى لها فرصة الحصول على سلك هوائي يعرض ما تقدمه محطات الدول الشقيقة، في حالٍ من الفرح المغرق لأفراد الأسرة وهم يلقون نظرة متواضعة عما يحصل بدول الجوار من داخل بيوتهم !
عندما تعود إلى ذاكرتي أيام طفولتي الأولى، وبدء سنوات التسعينيات بالحبو على البشرية، تزحف إلى مخليتي صور العشق البريء، وأيام انتظار رسالة خطية من شابٍ أضناه السهر وهو يزين خطه لحبيبته، ويرش على ورقته نصف زجاجة العطر، وينتظر بزوغ النهار كي يسابق الفجر إلى بيت المحبوبة، ويرمي أشواقه على الأرض خلسة، لتلتقطها بخجلٍ يداها وتخبئها داخل حقيبتها منتظرة انتهاز لحظات وِحدةٍ مع حروفه، تعيد قراءة فرحتها آلاف المرات.
وفي أحسن الأحوال، كان الهاتف التقليدي بسماعته الثقيلة شريكاً في حكايا الحب، وصلة وصلٍ ربطت العشاق في الليالي الطوال، عندما كان سماع صوت من نحب هبةً من العمر، واستراق ثوانٍ من فاتورة لا ترحم قمة العطاء.
الموسيقى والأغنية الراقية كانت مسيطرة بقوة على الساحة الفنية، وكلماتها ذات معانٍ ترضي أذواق المستمعين وتبقى أسيرة آذانهم لفترة لا بأس بها من الوقت، فأُنتجت الألحان الشعبية والطربية والعالمية وحفنة من الإبداعات الموسيقية التي مازال الاستماع إليها يغرقك بوابلٍ من الذكريات والحنين، لأنها أُعدت بإتقان وشُغلت بحب، قبل أن تصبح مادة لا قيمة لها في القرن الحالي، تُصنع بدقائق على أحدث البرامج الصوتية، فارغة من المضمون، مشحونة بالصخب واللامعنى.
قبل ما يُقارب العقدين، كانت الطفولة أبرئ، وبرامجها تربوية قبل أن تكون مسلية، مليئةٌ بالعبر والمواعظ للأجيال الجديدة، بصيغةٍ لا تخلو من البراءة والنُبل في تقديم الفكرة ومحاكاة عقول الصغار، حيث كانت مفاهيم الشجاعة والإخلاص والوفاء وأهمية العائلة والأصدقاء هي البنية الأولى لإنتاج أي مسلسل كرتوني، بينما في عصر السرعة أصبح من المخيف ترك الصغار أمام الشاشات لوحدهم كيلا تتعرض عيونهم لمشاهد تعتبر خاصة لفئة الكبار بما فيها من بعض الإباحية الممنهجة، ناهيك عن مشاهد العنف والقوة المبالغ فيها والتأثيرات الموسيقية المضطربة.
في تلك الأيام – وحسب اعتقادي الشخصي – وضع العقل البشري جهده في خلق قوالب إبداعية يجوب صداها العالم لسنواتٍ طوال، فلا أظن أن أحداً لم يسمع بالفيلم العالمي "تايتانيك" والقدرات الفنية العالية الذي طُرح في التسعينات ومازال يتربع على عرش أكثر الأفلام مشاهدةً في التاريخ ليومنا هذا، بينما لم يصل فيلم "أفاتار" المنتج في 2009 المنسوب إلى نفس المخرج وبرأس مالٍ ضخم إلى انتشاره سابقه وتحطيم نجاحه، وقِس على ذلك نخبة من الأفلام العالمية المؤثرة والإنسانية البحتة ذات التأثير المستدام، مقارنة بأفلام اليوم التي ما تلبث أن تسمع باسمها أو تخصص وقتاً لمشاهدتها حتى تنساها.
في ذلك الوقت، كانت الأجيال أكثر قناعةً بما يقدم إليها، فلم يكن يشغل تفكيرها إلا الحصول على دراجة هوائية أو لعبة الكترونية "أتاري" توصل على التلفاز وتمنح لاعبيها سعادة خالصة عندما يتبارون في حل ألعابها، مقابل أجيال اليوم البعيدة عن الرضا والاكتفاء بالموجود، فكلما حصل طفلٌ أو مراهقٌ على هاتف محمول متطور أو "آي باد"، طمع في الحصول على أحدث منه، وملاحقة عجلة التطور المتسارعة بغض النظر عن احتياجاته، وليتها تقدم له المتعة الحقيقة كتلك البدائية على أيامنا!
لا يمكن حصر الأمر بحقبة التسعينيات فحسب، بل يمتد زمن البساطة الجميل إلى الثمانينيات والسبعينيات وربما أبعد من ذلك، إلا أني لا أستطيع أن أكون موضوعية في حنيني ومقارنتي إلا لزمنٍ عاصرته وكنت أحد رواده وعاشقيه.
لا يمكن التنصل من الواقع وحقيقة التغيير الدائم في الحياة، وأن ما باليد اليوم سيكون غداً عملةً نادرة تتحسر على إضاعتها، وعدم تمتعك بكامل جوانبها وصفاتها، ولو بقي فحوى التسعينيات ممتداً إلى كامل الزمن، لتحول إلى نمطٍ روتيني يجب التخلص منه بشتى الطرق، لكن مما لا شك فيه أن كل العصور السابقة كانت أبسط بملامحها، يفيض منها الخير بكثرة، وما عملت على إنجابه كان وليد الإبداع والإتقان وتجسيد الموقف بكلمة أو فكرة أو عملٍ موسيقي، في حين باتت جميع منتوجات العصر الراهن أسيرة السرعة والاستهتار والملل، حتى فقدت أسمى مكوناتها، ولم يعد للأصالة في نشأتها وجود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.