الزمان: 9 نوفمبر / تشرين الثاني 2005
المكان: فندق "غراند حياة" في العاصمة الأردنية عمّان
الحدث: انفجار إرهابي راح ضحيته العشرات من بينهم المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد
عشر سنوات مضت على هذا التاريخ، خسرنا خلالها مئات الألوف من الشهداء، خسارة عظيمة بلا شك، لكنها لم تُنسِنا عُمق خسارتنا للعقاد، الذي حتى اليوم لم يُعوَّض، ولم تفرح سوريا والعالم العربي والإسلامي بخلَفٍ له يحمل رسالته ويستمر بها، وكلما تشابكت الأحداث أكثر شعرنا بعظيم حاجتنا إليه، فاليوم لا صوت يحكي عنا غير صوت القصف والتفجير، ولا صورة تُرسم لنا غير صورة التشدد والتكفير، ولا نوراً يُسلَّط على وجه أمتنا، فيجلو عنها ظلمة الإرهاب التي صبغونا بها وادَّعوا أنها تمثلنا، وأنها الشكل الأوحد لوجهنا الحضاري.
أكثر من ثلاثين عاماً مضت منذ قدَّم العقاد فيلمي (الرسالة)، و(أسد الصحراء) ولم يتمكن خلالها عربي أو مسلم من اقتحام غمار هوليوود، وإنتاج خطاب عالمي يحمل رسالة أمتنا، ويقدم للبشرية صورة صادقة عنها كما فعل العقاد.
درس العقاد الإخراج والإنتاج السينمائي في جامعة كاليفورنيا، وكان قد توجَّه إليها ليحقق حلمه ببلوغ العالمية ودخول هوليوود، كان هذا الحلم غريباً جداً بالنسبة لشاب حلبي المولد ينتمي لأسرة محافظة رباه والده على تعاليم الإسلام، وصار كل من حوله يراهنون على فشله، لكن رهانهم خسر فلم تفترس الحضارة الأمريكية بصخبها وسطوتها فِكْرَ العقاد أو مبادئه، فتعايش معها دون أن يتماهى فيها، بل بقي محافظاً على انتمائه العربي والإسلامي، وعندما سألوه: (لماذا لم تغيِّرْ اسمك لتجد فرصاً أفضل؟ قال: كيف أغيِّره وقد ورثته عن والدي).
كان يدرك أن هناك أزمة فَهْمٍ لأمتنا، يقول في مقابلة أجريت معه عام 1976 عن فيلم الرسالة: "شعرتُ بواجبي كمسلم عاش في الغرب بأن أقوم بذكر الحقيقة عن الإسلام، فالإسلام دين لديه 700 مليون تابع في العالم، ولكن للأسف المعروف عنه قليل جداً، ورأيت الحاجة الكبيرة لأن أخبر القصة التي ستصل هذا الجسر، وتسد هذه الثغرة إلى الغرب".
من هذا المنطلق جاء فيلم العقاد (الرسالة) مقدِّماً الإسلام بسماحته وقوته، برحمته وعظمته، ولم يعمد إلى ترجمة الفيلم إلى اللغة الإنكليزية، بل أنتج نسخة ثانية ناطقة باللغة الإنكليزية، وبمشاركة ممثلين عالميين، يقول كاتب النسخة الإنكليزية للفيلم: Harry Graig: "تمت كتابة السيناريو لمحاربة جهل العالم بهذه الديانة، وبالرسول محمد وبالقرآن الكريم، وبكيف كان الإسلام في عهد الرسول".
وبعد ما يقارب خمس سنوات قدَّم العقاد فيلم (أسد الصحراء) الذي يحكي فيه قصة كفاح الثوار في ليبيا ضد المستعمر الإيطالي، مسلطاً الضوء على شخصية البطل عمر المختار، جاعلاً من هذا الفيلم تاريخاً ناطقاً باللغة الإنكليزية، مصوِّراً للمجتمع الغربي كل قهر واضطهاد ارتكبته القوى العالمية بحقنا، وعندما سئل: لماذا لم تأتِ ببطل مسلم ليجسد دور عمر المختار، وأتيت بالنجم (أنتوني كوين)؟ قال: (لكي يقتنع الغربيون بقضيتنا وبالظلم الذي لحق بنا لابد من تقديم قضيتنا من خلال وجوه يعرفونها، ويحبونها، فلا أحد في الغرب سيشاهد فيلماً عن العرب يقوم به العرب، ولكن بهذه الطريقة نقوم بلفت نظرهم وحثهم على مشاهدة ما نقدمه، وبالتالي يفهمون حقيقتنا ويعرفون قضايانا).
لم تكن أحلام العقاد تقتصر على هذين الفيلمين، بل كان يطمح لما هو أكثر من ذلك فكان ينادي بضرورة أن يقوم العرب بتأسيس مدينة إنتاج إعلامي مشترك تحقق صفة العالمية، وتقدِّم قضايا الأمة بلغة يفهمها العالم بأسره، لكن لم يجد لنداءاته صدى.
وليس هذا فقط، بل أكثر من عارض العقاد في عمله وحاربه المسلمون أنفسهم، فلم توافق رابطة دول العالم الإسلامي على إنتاج فيلم (الرسالة) واعتبرته مخالفاً لتعاليم الدين، ومارست السعودية ضغوطات كبيرة لتعيق إنتاجه، وامتنعت الكويت عن المشاركة في تمويل الفيلم، واعتذر ملك المغرب الحسن الثاني عن الاستمرار في استضافة الفيلم للتصوير على أرضه، ما أدى إلى إيقاف التصوير بعد 6 شهور من بدئه على أرض المغرب، فانتقل العقاد بكل المعدات والكادر الضخم الذي معه إلى ليبيا ليتابع التصوير.
وعندما بدأ عرض الفيلم في أمريكا هاجمت جماعات إسلامية بعض دور العرض، وهددت المتفرجين وخطفوا منهم رهائن، وخرجت مظاهرات في دول عديدة تطلب منع عرضه، ولكن الفيلم عُرض، وليس هذا فقط، بل تمت ترجمته إلى 30 لغة، وكان سبباً في إسلام 30 ألفاً، الأمر الذي فاق في فائدته جهوداً دعوية كثيرة يقوم بها الدعاة في الجمعيات والروابط الإسلامية.
لقد تقبّل الناس على اختلاف جنسياتهم وأديانهم فيلمي "الرسالة" و"أسد الصحراء"، وأثّر بهم لسبب مهمٍّ نغفل عنه اليوم، وهو أن هذين الفيلمين لم يأتيا كردِّ فعل على هجوم فكري أو إرهابي نتعرَّض له، لم يكونا فورةً قدَّمها العقاد إثر رسوم مسيئة أو فيلم مسيء عن رسول الله، لم يأتيا عقب تفجير إرهابي نفَّذه أحد مدّعي الإسلام، لم يكونا صداً لهجوم، بل كانا إعلاءً لبناء، كانا تأسيساً لثقافة، وترسيخاً لوعي، وإقامةً لفكرٍ نحتاج إلى تكوينه عن أمتنا وقضايانا.
فإعلام ردِّ الفعل يكون آنياً مرحلياً، وظيفته الدفاع وهدفه الترميم، ينطلق من الضعف الذي بسببه كان الاعتداء، فيغدو محطَّ شفقة لمن يصغي إليه، ولا يكون له تأثير بالغ، بخلاف ما لو كان تأسيسياً يُعلي الفهم السليم ويبني التصور الصحيح عن ديننا وأمتنا، الأمر الذي قام به العقاد، وافتقدناه من بعده، فبقيت الساحة شاغرة، وبقي الثغر مفتوحاً نؤتى منه كلَّ حين، فإذا بالثقافات المعادية تبسط نفوذها، وتمارس سطوتها وتغريبها على أجيالنا، وإذا بجرائم الإرهاب تتقدَّم وتطفو على الساحة لتعلن الصورة المشوّهة عنا، بعد أن نالت من العقاد نفسه، فكانت منيِّتُه بتفجير إرهابي جبان.
عشر سنوات مضت على رحيل العقاد، ومازال الطريق الذي شقّه مهجوراً تركن فيه أحلامٌ بناها بفيلمين تمنى أن ينتجهما، أحدهما يحكي عن فتح الأندلس، والثاني عن صلاح الدين الأيوبي، ويكتب التاريخ عبارة قالها العقاد في إحدى مقابلاته وجَّه فيها الأنظار إلى الفئة التي تحمل المسؤولية الأكبر في تعبيد الطريق من بعده عندما قال: "أعطوني ثمن طائرة حربية واحدة أغيِّر لكم رأى العالم عن الإسلام".
ومازال الطلب مستمراً..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.