يقولون إن الكتابة موهبة.. أو هي موهبة صقلتها الممارسة.. ويذهب البعض في وصفها بالممارسة المجردة.. مع إيماني بالأول واتفاقي مع الثاني إلا أنني أتمنى أن يكون الأخير هو الصحيح.. كي أكتب بضمير مستريح.
إليك أيها الغريب.. المار دون ميعاد.. إليك أهدي هذه الكلمات،
إليك وإليك فقط.
جدتي والقدس
جدتي كما القدس.. ولدنا وولد معنا حبها.. بل عشقها.
لهما تاريخ يجعل من يراه يقف رافعاً القبعة لعظمتهما.
جدتي عانت من قسوة الحياة كمدينتنا ومن غدرها الذي جعلها تفقد سندها وزوجها في مقتبل حياتها تاركاً صغاراً أصغرهم والدتي كانت تبلغ من العمر 4 سنوات.. كان الحمل ثقيلاً ولكنها كمدينتنا وقفت واحتسبت.. علمت بأن المؤمن دائماً ما يبتلى وكانت تقابل كل شيء بالصبر.
عاشت لأبنائها ولأبنائها فقط.. مثالاً للأم المثالية.. لن تجد شخصاً يعرفها ولا يتغنى بأخلاقها وسماحة روحها.
أذكر صباحها جيداً.. كانت تستيقظ مع أشعة الشمس الأولى لتطلق أبدع ما سمعت من ذكر وصوت قائلة: لا اله إلا الله بنغمة لا تفارق أذني.
تقابلك دوماً ضاحكة ومهما كانت ظروفها إن سألتها تجيب: الحمد لله.
أذكر أني كنت أراها تصلي كثيراً وأنا في طفولتي كنت أعلم أنهم أركاناً خمسة، ولكنها كانت تصلي الفروض والنوافل ولا تجد لسانها إلا داعياً شاكراً حتى أنني بخبث الأطفال كنت أطلب منها ما أريد قبل أن تتجه لمحرابها وحديثها المطول مع خالقها.. لأني أعلم أنها إن بدأت الصلاة لن تنهيها قريباً.
كنت أحب زيارتها وأعشق قدومها لزيارتنا فقد كانت تأتي محمّلة بكل ما يشتهيه طفل شره مثلي.. وأثناء وجودها لم تكن أمي تجرؤ على ضربنا فتلك كانت فائدة مضافة.
وعلى الرغم مما تعرفه عني من مصارعة ثيران أثناء نومي لم تكن ترفض طلبي بالنوم جوارها وإن كانت تستيقظ صباحاً لتخبرني: "نومك عاطل يا ستي".
للقدس روح ساحرة ولجدتي نفس الروح، أذكر ممازحتها لنا ولعبها معنا، كما أذكر قصصها التي تبحر بك في عالم الخيال لتكون أول من فتح أمامي ذلك العالم.
كانت زيارتنا لها عيداً يجدر بنا الاحتفال به.. علمتنا كيف يكون الحب، كيف تكون التضحية، كيف يكون الصبر.
أذكر ذلك اليوم جيداً.. يوم وفاة خالي الأكبر، كانت غصة تخترق قلبي ولو أن مفهوم الموت لم يكن بذلك الوضوح لديّ.. ولكن رؤيتها وهي حزينة صابرة تذرف الدموع بصمت ولا تقول إلا: إنا لله وإنا اليه راجعون.. ذلك المشهد كان قاتلاً..
أذكره يومياً والقدس تشيع أبناءها قائلة: إنا لله وإنا اليه راجعون.
آخر مرة رأيت بها جدتي كانت تنظر اليّ وأطالت النظر وبدأت بالابتسام.. ابتسامة مشرقة لا أستطيع نسيانها.. حتى أن ابنة خالي ضحكت وقالت: ستي بتضحك لرؤى.. يا بختك يا رؤى.
ورحلت جدتي.. رحلت كما رحلت القدس عن خيال أبناء العرب، ولكن جدتي بقيت بروحها التي أشعر بها دوماً.. زارتني مرة في حلمي جالسة ضاحكة تقرأ القرآن من مصحف كبير نظرت لي وضحكت.. فكانت ضحكتها بلسماً أذكره كلما ضاق هذا العالم.. كضحكة القدس كلما استقبلت مصلين.
جدتي كالقدس..
بناء ضخم تملؤه الإنسانية والعظمة.. يغيب أحياناً ولكنه باق.. له جذور.. زرع جذوره فينا ورحل عالماً بأن أحداً منا لن ينساه أو يتركه.
جدتي عشقت سيدي وحبيبي رسول الله وكانت تتغنى بوصفه بصوت يشبه النهر الصافي.. لا شك بأنها سعيدة الآن تحتفل معه بمولده الشريف.
رب ارحمها وارحم جميع موتانا واحفظ لنا قدسنا وضحكتنا كي لا تحزن جدتي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.