الغروب يقترب، لكن شمسَ الشتاء الشاحبة تُبقي درجات الحرارة فوق الصفر ساعةً أخرى، آنيليز أوغستين في طريقها إلى الملعب الصغير قرب "غار دو ميدي" مع طفليها.
إنه اليوم الثالث من عملية ملاحقة الجهاديين في العاصمة البلجيكية ولم تغادر العائلة شقتها منذ 3 أيام، وأغلقت الحكومة مكتب العمال الذي فتحته في مركز المدينة، وكذلك أغلقت مدارس الأطفال يوم الاثنين، بحسب التقرير الذي نشرته "الغارديان" البريطانية.
أوغستين سيدة بلجيكية تقول "علينا العيش رغم كل شيء، رغم كل هذا التوتر، الأطفال سيصابون بالجنون، ولا أحد يعرف كم سيستمر هذا الوضع".
مساء الاثنين، وعدت الحكومة بتخفيف حالة الطوارئ غير المسبوقة التي فرضتها خلال ملاحقتها للجهاديين المرتبطين بهجمات باريس والمشتبه بأنهم يخططون لعمليات مشابهة في بروكسل، لكن رئيس الوزراء، تشارلز ميشيل، أكد أن التهديد لا يزال "خطيراً ووشيكاً".
بروكسل الخاوية تتحول لثكنة عسكرية
العربات المدرعة، والجنود المدججين بالسلاح باتوا منتشرين في مركز المدينة التاريخية ومحطاتها الكبرى، معظم المحلات، المقاهي والمصارف ، مكاتب الحكومة، والمتاحف ودور السينما أغلقت "بشكل استثنائي"، وفق ما ورد في القصاصات التي كُتبت على عجل وألصقت بنوافذ هذه المؤسسات، كما أن ما يقرب من 300 ألف طفل لم يذهبوا إلى المدارس، كما أغلقت الجامعات وعُلَّقت رحلات المترو.
يبقى الجميع في بروكسل العاصمة الإدارية للاتحاد الأوروبي قلقاً، لكن بعض السكان بدأ بالتشكيك في الحاجة إلى هذه الإجراءات الصارمة.
وتقول أوغستين "تبدو الإجراءات قاسية، لكني أفترض أنها تهدف إلى الحفاظ على سلامتنا، لذا سآخذ الأطفال إلى المراجيح، أتناول قهوة مع صديق، ثم أعود إلى المنزل".
الإجراءات الأمنية جديدة على حياة الأوربيين
هانز كينغن ظل يراقب زوجته وهي تقود دراجتها متوجهةً إلى مكتبها في المفوضية الأوروبية التي بقيت مفتوحة رغم التشديد الأمني، وشعر الرجل بالراحة حين اتصلت به زوجته لتخبره أنها وصلت بأمان لمكتبها.
يقول كينغن "لقد عشت في الهند وجنوب أفريقيا، لذا أنا معتادٌ نوعاً ما على المشاكل الأمنية، لكني لم أتوقع أن أرى عنف الحرب في أوروبا، نحن لسنا معتادين على الأمر فحسب، رغم معرفتي أن هذا الوضع لن ينتهي قريباً، علينا تفهم الوضع".
كينغن مثله مثل آخرين، ناقش التهديد وأسبابه مع أطفاله الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة، وأضاف "لا نستطيع إخفاء الأمر عنهم، فهم متأثرون بشكل واضح، رغم أني حاولت طمأنتهم".
الجميع يتحدث عن الخطر الوشيك
أما مارتن لورين، صاحب المحل الذي يقع قرب محطة ميديثمة فيقول "هناك تذكير دائم بالخطر في بروكسل"، غيرت محطات التلفزيون من برامجها والمقالات المتعلقة بالوضع تُغرق الصحف، البعض يقدم النصائح حول ما يجب فعله في حال التعرض للهجوم، وتتم مناقشة الموضوع في المقاهي، القطارات وسيارات الأجرة.
ويضيف "لست قلقاً جداً، لكني أفكر فيما سأفعله إن وجدت نفسي في ذلك الوضع، أو إذا حدث شيء مشابه مع أمي ذات الـ65 عاماً، وهي المصابة بداء المفاصل وبالتالي لا تستطيع الركض بسرعة".
هروب صلاح عبد السلام زاد الوضع تعقيدا
مخاوف سكان بروكسل والضغوط النفسية عليهم زادت بشكل كبير بعد فشل الأمن البلجيكي في العثور على صلاح عبد السلام، المشتبه في مشاركته في هجمات باريس والذي عُرف أنه عاد إلى بلجيكا.
عبد السلام الذي كان يعيش في منطقة مولينبيك في العاصمة بروكسل كان الهدف الرئيسي لسلسلة المداهمات التي شارك فيها آلاف من رجال الشرطة والجنود ليلة الأحد وصباح الاثنين، وأعلن وزير الداخلية، يان جامبون، صباح الاثنين أن "العملية مستمرة وستمضي قدماً"، واصفاً بعض الدول الأوروبية الأخرى بأنها "على نفس المركب معنا".
بلجيكيا الحلقة الأضعف
بياتريس ديلفو، الصحفية في جريدة Le Soir علقت على تصريحات وزير داخلية بلادها وتقول "إن هذا ليس صحيحاً تماماً، فرغم أن الإجراءات الاحترازية فُرضت في العديد من الدول الأوروبية الأخرى خلال السنوات الأخيرة، إلا أن القليل منها يعاني مما تعانيه بلجيكا، فالبلد يُعتبر الحلقة الأضعف في الجهود الأوروبية المبذولة لمكافحة الإرهاب، والواضح أن التكلفة الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية لعملية الملاحقة ترتفع".
وتضيف بياترس أن "العملية الأمنية المستمرة في بروكسل وضواحيها تسبب شللاً في المدينة لتنتشر إلى البلاد كلها شيئاً فشيئاً، في مناخ القلق العميق هذا، سيكون من العصب جداً على السلطات أن تحافظ على الاستقرار لأجل غير مسمى".
ويوافق كيغين، رجل الأعمال، على هذا الرأي بقوله "لا نعرف ما الذي سيحدث، نحاول تصريف الأعمال من يوم إلى آخر لكننا لا زلنا مذهولين قليلاً، لكن كم سيستمر هذا الوضع؟ ستأتي لحظة تتراخى فيها الاشياء، فهذه ليست غزة".
انفراجة يوم الأربعاء
وكان رئيس الوزراء قد قال إنه يأمل في فتح المدارس يوم الأربعاء كما يمكن أن يتم تسيير بعض رحلات المترو.
ويشير خبراء بلجيكيون أن البلد لم يشعر بأنه مستهدفٌ بشكل خاص من قبل المسلحين الإسلاميين، رغم أن بعض محاكمات الإرهابيين تجري هناك، كما أن البلد لم يعاني يوماً من تهديدات إرهابية من أي نوع آخر مثلما حدث في بعض البلدان الأوروبية الأخرى.
غيتي هيندريكس، الفنان البالغ من العمر 22 عاماً والذي يعيش في بلدة صغيرة شمال بلجيكا، قال "لا أذكر أني مررتُ بشيء كهذا من قبل في حياتي".
وبرغم أنه و في ثمانينيات القرن الماضي، عانت بلجيكا من موجة عنفٍ نفذها يساريون متطرفون وعصابة من المجرمين، لكن ريك كولسايت، الخبير في شؤون الإرهاب في جامعة غينت، قال إنه مرت عقود منذ "طغيان هذا الجو من الخوف، حيث لا يعرف أحد عواقب ما سيحدث، مكانه أو منفذِّيه".
لكنه أشار إلى أن الوضع كشف جانباً آخر من الشخصية البلجيكية، حين قامت السلطات مساء الأحد بمطالبة الأهالي والصحفيين أن يكفّوا عن نقل أحداث المداهمات المستمرة عبر الشبكات الإجتماعية أو المواقع الإخبارية، قام الآلاف بنشر صور القطط على تويتر لتغطية ما يجري.
الحرب في قلب بروكسل
أضاف كولسايت: "بلجيكا هي مدينة رينيه ماغريت بعد كل شيء، ولذا فإن هذا النوع من السريالية هو جزء من ردود أفعالنا، لا أعتقد أنك ستجد الأمر نفسه في فرنسا أو الولايات المتحدة".
ثمة قلق متزايد حول العلاقات ما بين المكونات الاجتماعية لمدينة بروكسل. إذ أن حوالي 5٪ من سكان بلجيكا الذين يصل عددهم إلى 11 مليون هم من المسلمين.
مليكا حميدي، وهي ناشطة تقيم في منطقة "فوغيه"، قالت أن هنالك عدم ثقة واضحة بين السكان. وأضافت "ليست فقط بين البلجيكيين والمهاجرين المسلمين. بل بين المسلمين أنفسهم. الناس قلقون جدا. ولكن علينا أن لا نستسلم للخوف".
ابنتها التي تبلغ من العمر 13 سنة كانت قلقلة، إلا أن طفلها الأصغر عمراً (11 سنة) أصيب بالصدمة، قالت حميدي "كانت تشاهد صور الحرب على التلفزيون طوال حياتها. لكنها كانت حرباً بعيدة. كانت تسألني منذ مدة بعيدة متى ستتصل إلينا هذه الحرب. الآن تعتقد أنها وصلت إلى قلب بروكسل".