منذ أربعة سنوات ونصف واجه السوريون مشكلتين رئيسيتين، لا تقل إحداهما صعوبة وتعقيداً عن الأخرى، الأولى إسقاط نظام بشار الأسد، والثانية توحيد المعارضة السورية، وإذا كان الثوار قد حققوا تقدماً كبيراً على الأرض خلال زمن الثورة، بحيث أصبح بشار الأسد الذي كان يبسط سيطرته على كامل الأراضي السوري 24 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع قبل مارس 2011، لا يحكم ولا يتحكم الآن إلا بجزء صغير من سورية قد يعادل الثلث وفي بعض تلك الأماكن لساعات محدودة من اليوم، ويحتاج لمليشيات حزب الله وأبو الفضل العباس وخبرات وضباط إيران وطائرات وصواريخ روسيا كي يحافظ على ما تبقى تحت سيطرته من أراضٍ، فإن المعارضة السورية تبدو اليوم كما في كل وقت من أوقات وجودها بعيدة عن الوحدة، أو أقله الاتفاق على مشتركات فيما بينها، ابتداءً من الاتفاق على إسقاط بشار الأسد وصولاً إلى ما سيتلو سقوطه من مراحل.
قبل الثورة لم تكن هناك معارضة سورية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالأحزاب اليسارية أنهكتها السجون والاختراقات الأمنية، والأحزاب القومية كانت أقرب إلى الحركات الدعوية الإصلاحية التي غالباً ما تتفق بوجهات نظرها مع كثير من مواقف النظام، فيما كانت جماعة الإخوان المسلمين التي دفعت ثمناً غالياً في ثمانينيات القرن الماضي حائرة بين أن تنسق معارضتها ساعة مع إعلان دمشق، وأخرى مع نائب الرئيس المنشق عبد الحليم خدام وجبهة خلاصه، وبين مغازلتها للنظام وتجميد معارضتها بحجة العدوان الذي يتهدد الأمة بعد حرب غزة، وبقيت المعارضة لوقت طويل معتمدة على شخصيات مختلطة مابين السياسي والثقافي، أكثر مما هي قوى وأحزاب وتكتلات وتيارات.
في مارس 2011 فاجأت الثورة السورية المعارضة بنفس الطريقة التي فاجأت بها النظام، ولم يكن لها أي دور لا في تنظيم ولا في قيادة الاحتجاجات الشعبية التي عمّت مدن الأكثرية المهمشة في سورية، وبعد وقت اختار جزء من هذه المعارضة الالتحاق بالثورة التي لم يكن يحلم بها حتى في مناماته، وكان أقصى طموحه إسقاط النظام بعوامل خارجية، لأنه لم يكن في يوم من الأيام ينظر إلى الناس (الذين كان يتحدث باسمهم طوال الوقت) باعتبارهم قوة مؤثرة في أي تغيير قد يحدث، فيما اختار جزء آخر الانتظار والتريث، أو تفعيل حاسة الشك ونظرية المؤامرة لديه في التعامل مع ما يجري أمامه، قبل أن يحسم موقفه من كونها ثورة على الاستبداد، أم مؤامرة تستهدف البلد ومواقفه القومية.
لم تستطع الثورة السورية في بداياتها، ولا عبر كل سنوات عمرها حتى اليوم أن تفرز قيادة سياسية لها، وأبرز القادة الميدانين الذي حققوا شعبية ما بين السوريين، لم تكن لديهم رؤية أو مشروع سياسي، وسرعان ما تمت تصفية بعضهم جسدياً وتصفية الآخرين سياسياً عبر تشويه صورهم وشيطنة أفعالهم، وفي مثل هذا الظرف التي تحتاج فيه الدول والمنظمات والقنوات التلفزيونية لمن يمثل الثورة ويتحدث أو يتفاوض باسمها بدأ الحديث عن المعارضة السورية.
عقدت مؤتمرات ونظمت لقاءات وتشكل المجلس الوطني وهيئة التنسيق الوطنية والائتلاف الوطني، وعلى هامشهما تشكلت تيارات وقوى وأحزاب، وكان لكل هذه الأطراف مرجعيات خارجية تموّل وتأمر وتنهى، وتستبعد وتقّرب، وتضغط وتمون، والتأييد الشعبي الذي حصلت عليه بعض هذه القوى لم يستمر لفترة طويلة، إذ تحوّل بعد ذلك إلى تأييد مأجور، كان يستغل حاجة الناس وظروفهم المعيشية السيئة ليدفع مقابل رفع لافتة تأييد له في تظاهرة.
كان واضحاً منذ بداية تشكيل الهيئات المعارضة نهم كل القوى وبقايا الأحزاب والشخصيات التي شاركت فيها وشرههم إلى السلطة، وقد توهموا أنهم باتوا على بعد أمتار قليلة منها، يتساوى في ذلك المعارضين المخضرمين من يسار ويمين الذين أيقظت الثورة حلمهم القديم بالسلطة والذين دفعوا في سبيله سابقاً أعواماً في سجون الأسد الأب وفشلوا في تحقيقه، ببقايا فلول النظام من مستخدميه وموظفيه الذين ألقوا بنفسهم من مركب النظام الغارق بعدما أثروا ليحجزوا لهم مكاناً في مركب الثورة، بالعناصر التي اخترق بها النظام المعارضة ودفعها إلى الصفوف الأولى منها، بالمعارضين التلفزيونيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة نجوماً في الثورة ويطالبون بحصة لهم لمجرد ظهورهم في نشرة أخبار أو برنامج حواري.
في كل المؤتمرات التي حدثت لتوحيد المعارضة لم يكن الخلاف على المبادئ بقدر ما كان الخلاف على المصالح والمناصب، وكل الأوراق التي وقعت عليها جميع الأطراف تحولت إلى حبر على ورق بسبب الاختلاف على من يتصدر المشهد، وتبعية جهة من تلك الجهات لهذه الدولة أو تلك لم يكن بسبب وله وافتتان عاطفي بها، أو مشاركة رؤاها السياسية، أو الارتباط الفكري بها، بقدر ما هي مصدر تمويل ومركز دعم لأحلام السلطة لدى تلك الجهة أو ذلك الحزب، ولذلك من الطبيعي أن تظهر ثلاث قوائم مختلفة للمعارضة السورية، إن صحت القوائم التي قيل أنها تقدّمت بها ثلاث دول إلى مؤتمر فيينا، بل ربما ما يدعوا للاستغراب أن تقتصر تلك القوائم على ثلاث، في حين أن الواقع يقول أن كل الدول الأوربية والولايات المتحدة وعدة دول عربية وإقليمية تستطيع أن تقدّم قوائم خاصة بها من المعارضين الملحقين بها الذين يتلقون رشىً ومساعدات وأجوراً إن على سبيل الدعم السياسي الواضح، أو عبر منح لمؤسسات إعلامية أو بيوت ثقافية أو استضافة مؤتمرات.
خلال أربع سنوات ونصف من عمر الثورة في سورية، وبينما كان الثوار السوريون يموتون يومياً وهم يواجهون النظام، ويمنعونه من إعادة احتلال سورية واستعباد السوريين، كانت المعارضة التي تتقاتل على المناصب، وتضيّع الوقت والدم في الارتهان والتبعية للدول على مختلف أنواعها، تؤدي دوراً لا يقل أهمية في خدمة النظام عن مليشيات الدفاع الوطني التي شكلها لحمايته، وما فشل فيه عسكرياً وكبده خسائر كبيرة طوال ما يقارب من خمسة سنوات، ها هو يستعد للحصول عليه على طاولة مفاوضات في قاعة مدفّأة في فيينا، مع شركاء يعرف أكثر من الجميع أن لا هم لهم سوى المناصب!
في عام 2003 قال لي مشرف صفحة القضايا في جريدة النهار اللبنانية: أنا لا أفهم لماذا يتصرف بشار الأسد بهذا الغباء، ففي أحسن الأحوال لديه ما يقارب من مائة معارض، وكان بإمكانه أن يسلمهم إدارة مؤسسات ومديريات ويشغلهم عنه بجمع الأموال وعدّها، واليوم بعد 12 عاماً من هذا الكلام أظن أن بشار الأسد لم يكن يراهم يملكون قيمة ما ليدفع لهم ويشتريهم، فترك غيره يُخدع بهم ويدفع مقابلهم، وحصل عليهم بالمجان!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.